هل يُعيد جونسون لبريطانيا «عظمتها»

هاني عوكل.jpg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

يسعى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى لفت انتباه الرأي العام في بلاده حول الحرب الروسية على أوكرانيا، وتكبيرها إلى درجة ينسون فيها المطالبات باستقالته على خلفية إقامته حفلات "داونينج ستريت" خلال مرحلة الإغلاق بسبب تفشي جائحة "كورونا" العام 2020.
جونسون مهندس خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، أراد أن يستعيد عظمة بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس، إذ لم يكن سبب الخروج يتصل بالجانب الاقتصادي فحسب، وإنما عوامل كثيرة أهمها سياسية تتعلق بمكانة لندن في النظام العالمي على خلفية الصعود القوي لكل من الصين وروسيا وقوى أخرى مثل الهند وكوريا الجنوبية والبرازيل.
الملف الأوكراني شكّل واحداً من التحديات الحقيقية أمام السياسة الخارجية البريطانية بعد "البريكست"، وبدا لجونسون أنه يتحرك بسرعة لمساعدة كييف على مواجهة الحرب مع روسيا. حتى أن لندن كانت مستعدة لإرسال قوات خاصة إلى أوكرانيا في حال اندلعت حرب ضدها.
أكثر من ذلك، أخذت لندن إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية مواقف حاسمة جداً ضد روسيا، من بينها فرض عقوبات اقتصادية على مسؤولين وقطاعات اقتصادية وأصحاب رؤوس الأموال الروس واستبعاد البنوك الروسية من النظام المالي في لندن، وكذلك طردت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس السفير الروسي من مكتبها.
رجولة جونسون في السياسة الخارجية مستمدة من بعض الإخفاقات في السياسة الداخلية وخصوصاً موضوع الانتقاد الشعبي للحفلات الحكومية التي أقامها عشية فرض الإغلاق العام مع انتشار "كورونا". وحتى يصرف انتباه الرأي العام في بلاده، ذهب بوريس إلى كييف والتقى الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
زيارة جونسون هذه تعتبر الأرفع لمسؤول غربي إلى أوكرانيا منذ بداية الحرب الروسية، وكما كان متوقعاً قام رئيس الوزراء بوريس بدعاية تتضمن التجول برفقة زيلينسكي في شوارع كييف لتغير المزاج الشعبي البريطاني بأولوية متابعة الملف الأوكراني على حساب أي ملفات أخرى.
كذلك يريد رئيس الوزراء البريطاني أن يؤكد على أن بريطانيا تمتلك قاطرة وحدها وليست هي خلف الاتحاد الأوروبي، وقراراتها تنبع من مصالحها القومية فقط، وأيضاً يرغب بأن يكون لاعباً مؤثراً في القارة الأوروبية على حساب اللاعبين الألماني والفرنسي تحديداً.
مثلما تنظر الولايات المتحدة إلى الصين وروسيا على أنهما مهددان للنظام العالمي الحالي، تشاطر بريطانيا واشنطن هذه النظرة وتجد أن من أولوياتها إعادة بناء أمجاد بريطانيا العظمى وإبطاء الصعود الروسي لبناء نظام دولي جديد وإنهاكه سياسياً واقتصادياً بكل أشكال الحصار المفروض عليه.
جونسون الذي يعتقد أن سبب ضعف بريطانيا كان يكمن في انضمامها للاتحاد الأوروبي، يريد ومن خلفه حزب المحافظين أن يعيد أمجاد الماضي ببناء بريطانيا العالمية بطرق عدة من بينها توسيع الشراكة مع دول آسيا، وإنتاج  من 180 إلى 260 من الرؤوس النووية لتعزيز النفوذ العسكري حول العالم.
في الحقيقة يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني يغار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من حيث الإنجازات التي حققها الأخير لبلاده وعودة الدب الروسي بقوة إلى مسرح النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثين عاماً. جونسون يحاول أن يكون بوتين بريطانيا.
بطبيعة الحال لن يتخلى عن أوروبا التي تربطه بها علاقات استراتيجية قوية، وأساساً دونها لا يمكن لجونسون مواجهة روسيا، كما لا يمكنه مواجهتها دون حليف قوي مثل الولايات المتحدة، وكثيراً ما يتودد للرئيس الأميركي جو بايدن وأنه معه في معسكر واحد ضد الصين وروسيا.
لكن هل يتمكن رئيس الوزراء البريطاني من وضع بلاده بين القوى التي تصيغ المشهد الدولي؟ صحيح أن لندن عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، لكنها لم تعد تصنف بين الدول الخمس الأوائل من حيث القدرات العسكرية، إذ تضعها مؤسسة "غلوبال فاير باور" المتخصصة في الشؤون العسكرية في المرتبة الثامنة بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا.
اليوم تسعى كل من الهند وكوريا الجنوبية على سبيل المثال لمنافسة بريطانيا في الجانبين العسكري والاقتصادي، والبرازيل هي الأخرى تمضي في تحقيق معدلات نمو جيدة، ولذلك تحتاج لندن إلى تعزيز الشراكة على ضفتي الأطلسي ومع رابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان" ووضع خطط طموحة وفتح أسواق جديدة أمام صادراتها.
ستبقى بريطانيا دولة قوية ومؤثرة على الساحة الدولية، لكنها لن تكون في المرتبة الرابعة ولا حتى الخامسة على العالم في كافة الجوانب. أضف إلى ذلك أن التنافس الدولي الشديد قد يؤثر على مستقبل مكانتها في سلّم النظام العالمي، وقد لا يتمكن جونسون من إعادة العظمة والهيبة إلى بلاده.
بريطانيا دولة تابعة للولايات المتحدة. صحيح أنهما حليفان استراتيجيان، لكن لم تحد لندن عن خط السياسة الأميركية، ولا يمكن لقوة أن تصعد طالما أنها مدعومة من قوة أعلى منها. إلى جانب أن التنين الصيني قادم لا محالة، وهذا الصعود سيعيد بالتأكيد صياغة المشهد الدولي.