ستكون الحرب في أوكرانيا وعليها، قد دخلت أسبوعها السادس عند نشر هذه المقالة، مُسقطة بذلك رهانات الكرملين على الحسم العسكري السريع والاستسلام الكامل للدولة الأوكرانية.. الحرب التي ما زالت بعيدة عن خط نهايتها، جاءت محمّلة بالمفاجآت من العيار من الثقيل، وأجبرت أفرقاءها المباشرين وغير المباشرين على مراجعة إستراتيجياتهم أكثر من مرة، والأهم، الهبوط بسقف توقعاتهم تباعاً، والعملية ما زالت مفتوحة على مزيدٍ من التداعيات والمفاجآت.
لم تنجح روابط التاريخ والعرى الوثقى و"الحبال السّريّة" التي ربطت الأوكرانيين بالروس، في إطفاء حقيقة أن ثمة اعتزازاً قومياً أوكرانياً بهوية البلاد وسيادتها واستقلالها ووحدة ترابها، وأنه كان حافزاً قوياً لتسطير فصول "مقاومة شعبية ورسمية" أوكرانية، فاجأت حلفاءها وأذهلت خصومها.. الكرملين راهن على "الهشاشة القومية" كمقدمة موضوعية لفكرة الحسم السريع، والحلفاء أعادوا النظر في خططهم لإجلاء زيلينسكي وعائلته وصحبه، في بواكير الحرب وأيامها الأولى، قبل أن تنقلب إلى إشادة وتثمين، ودعم ينهمر على كييف كالمطر الغزير: مالاً وسلاحاً وعتاداً.
وسينتقل الكرملين من شعارات اقتلاع الزمرة القومية المتطرفة الحاكمة، والترويج لانقلاب عسكري "موالٍ" يمكن "التفاهم" مع جنرالاته، وتجريد أوكرانيا من سلاحها بعد أن ترفع كييف رايات الاستسلام البيضاء، إلى شعارات أكثر تواضعاً: ضمان حياد أوكرانيا وعدم انضمامها للناتو والتزامها بعدم السماح بنشر قواعد للحلف الأطلسي، فضلاً عن التزام مماثل بعدم امتلاك أسلحة دمار شامل نووية أو كيميائية أو بيولوجية.. وستنعكس هذه التبدلات على أهداف الحرب وعناوينها الكبرى، مثلما ستنعكس على ميادين المواجهة وجهات القتال، وستجري عمليات إعادة نشر القوات، وإعادة تعريف لمهمتها وحصرها في "حماية دونباس".
فقد الهجوم الروسي زخمه بعد اليوم الثالث للمعارك، ومنذ ذلك الحين، صار عامل الوقت، يعمل في غير صالح القوات الروسية المهاجمة، وثبت أن الحرب لن تحسم بالضربة القاضية، وأنها لن تكون نزهة قصيرة، وأن كلفها الباهظة لن تتوقف عند أوكرانيا، سيما بعد فيض المساعدات العسكرية والمالية الغربية لكييف، مقابل طوفان العقوبات الجارف، وغير المسبوق في التاريخ، الذي تعرضت وتتعرض له روسيا.
أيقنت روسيا أن "الحسم العسكري السريع" لم يعد خياراً من دون أن تلجأ إلى "سيناريو غروزني" باهظ الثمن في الحالة الأوكرانية، والمقامرة بصدام مباشر مع الغرب وجيوشه، وهو سيناريو تخشاه روسيا مثلما يخشاه الغرب، وربما بالقدر ذاته، على الرغم من وضع "القوة الإستراتيجية الردعية" الروسية في حالة قصوى من التأهب والاستنفار.
لكن أوكرانيا في المقابل، وهي الطرف الذي دفع ويدفع أفدح الأثمان، كانت تعرف منذ البدء، أن "الصمود" في ظل اختلال ميزان القوى، هو انتصار بحد ذاته، وأن إطالة أمد الحرب، واستنزاف روسياً عسكرياً واقتصادياً، من شأنه أن يقلص من حجم الثمن (التنازلات) التي سيتعين عليها تقديمه على مائدة المفاوضات أمام ممثلي الكرملين، وتلكم كانت إستراتيجية كييف، المنسقة والمدعومة من مختلف العواصم الغربية.
زيلينسكي بدوره، قرر النزول عن الشجرة، وهو بات يدرك تمام الإدراك أن لـ"استقلال" بلاده و"سيادتها"، حدوداً وضوابط، يصعب تخيطها أو العبث بها، وأن للدعم الغربي سقوفاً لن يستطيع اجتيازها.. كفّ عن المطالبة بعضوية الناتو المثيرة لروسيا، واستمسك بعضوية الاتحاد الأوروبي، المقبولة منها.. استعد للقبول بحياد أوكرانيا، بكل مندرجاته، لإطفاء قلق موسكو ومخاوفها.
خمسة أسابيع من المعارك الضارية، ميدانياً فوق أرض أوكرانيا، واقتصادياً و"طاقياً" ومالياً، على امتداد الساحة الدولية، كانت كافية لدفع طرفي المواجهة المباشرة، لتقليص سقوف تطلعاتهما، والجنوح إلى "الواقعية" بعض الشيء، وإدراك أن أماني الحسم السريع، والخروج بمعادلة "منتصر ومهزوم"، لم تكن في واقع الحال، سوى أضغاث أحلام، ودخان تصعب مطاردة خيوطه.
أنعشت تلك التطورات الآمال والرهانات على الدبلوماسية والخيار التفاوضي، وارتفع منسوب التفاؤل بإمكانية ولوج عتبات حلٍ سياسي للأزمة واحتواء تداعيتها. لكن إذا كان الحسم العسكري لهذه الحرب متعذراً، إن لم نقل مستحيلاً، فإن "السلام" يبدو خياراً صعباً كذلك، في ظل اتساع الخلافات وانعدام الثقة، وشلالات الدماء التي باتت تباعد طرفي الأزمة المباشرين، ناهيك عن حروب الاتهامات وحملات الشيطنة التي اتخذت طابعاً "شخصياً" إضافياً، أكثر من أي أزمة مضت.
فمن جهة أولى، يصعب على الكرملين، بعد كل ما تكبدته روسيا من خسائر بشرية ومادية، أن يكتفي بحياد أوكرانيا.. ستظل قضيتا "القرم" و"دونباس" حاضرتين بقوة في حسابات بوتين وخلفية قرار الحرب على أوكرانيا.. ومن جهة ثانية، سيصعب على زيلينسكي أن يتجرع كأس التنازل عمّا يعتقده جزءاً أصيلاً من أراضي أوكرانيا للسيادة الروسية.. "القرم" و"دونباس"، ستجعلان السلام بين البلدين صعباً للغاية، وستحتاجان إلى قدر كبير من حنكة الوسطاء وإبداع الدبلوماسية، مثلما ستحتاجان إلى ترتيبات ومعالجات قد يطول زمنها.
قبلت أوكرانيا مبدئياً، بألا تشمل الضمانات الدولية التي تطالب بها "القرم" و"دونباس"، لكن ذلك لا يعني ببساطة أنها قررت التخلي عن هاتين المنطقتين، كما رأى بعض المراقبين. فهل يمكن التفكير بتجزئة الملفين وتناول كل واحدٍ منهما على حدة، باعتبار أن قضية "القرم" باتت جزءاً من الماضي، فيما البحث سينصب أساساً على "دونباس"؟ وهل يمكن الوصول إلى "نقطة وسط" بين موسكو وكييف حول مستقبل هذا الإقليم، كأن يُصار إلى اقتراح "ترتيب فيدرالي" يحفظ لجمهوريتي الإقليم حقوقاً وطنية وثقافية و"لا مركزية عميقة" لشؤونهما، في ظل الوحدة الترابية للبلاد؟ وهل يمكن لنظام الضمانات الدولية الذي تطالب به كييف أن يحفظ لأوكرانيا سيادتها واستقلالها وأمنها من جهة، وأن يحفظ للإقليم، أمنه واستقلاليته الذاتية، في ظل فيدرالية صلبة، مصونة من الانتكاس؟ سؤال برسم جهود الوساطات والوسطاء.
ثم، وبفرض أن قضايا الخلاف الثنائية، بين أوكرانيا وروسيا جرى التوصل إلى حلول توافقية بشأنها، فما الذي يمكن عمله لوقف حروب "العقوبات" و"العملات" و"الطاقة" و"الاقتصادات" التي تنخرط فيها روسيا والغرب، وتشتمل ميادينها الصين والهند واليابان وعدد غير منته، من الدول في العالم؟ هل يمكن إدراج "العقوبات" على جدول أعمال المفاوضات الأوكرانية – الروسية، هل يمكن التفكير بإطار تفاوضي "متعدد الأطراف"، هل تقبل روسيا بإغلاق ملف أوكرانيا مُبقية ملف العقوبات التي تحاصرها، مفتوحاً على أوخم العواقب وأبعدها مدى؟ هل سيقبل الغرب، الولايات المتحدة أساساً، بالسير في مسار موازٍ ومواكبٍ للمفاوضات الثنائية، أم أن العقوبات أُخِذت لتبقى؟
هل سيحافظ الغرب والناتو على وحدتيهما، في حال وضعت الحرب أوزارها وتوصلت موسكو وكييف إلى اتفاق سلام، أم أن أوروبا ستجد نفسها أكثر اندفاعاً من حليفتها على الضفة الثانية للأطلسي، لرفع هذه العقوبات و"تطبيع" العلاقات مع موسكو، سيما أن أوروبا، أكثر من غيرها، تدفع أثمان هذه العقوبات، والهجرات، وربما موجات التطرف القومي – المسلح، التي قد تجتاح أوروبا بعد صمت المدافع، وعودة "المتطوعين" إلى بلدانهم ومجتمعاتهم؟
بعد دخول الحرب في أوكرانيا وعليها، أسبوعها السادس، يبدو الحسم متعذراً في الميدان، والسلام صعب للغاية على مائدة المفاوضات، وسيبقى السباق من الدبلوماسية والتصعيد هو سيد الموقف، إلى أن تنضج الأطراف للقاء بعضها البعض في "نقطة ما" في منتصف الطريق.