تهديد روسي وتحذير أميركي... والكلام عن سلاح نووي تكتيكي

حجم الخط

بقلم راغدة درغام

أطلّت نُذر الحرب النووية برأسها هذا الأسبوع، عبر تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، وعبر تحذيرات من مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA وليام بيرنز.

 

"طلقة صوت في الهواء" قال ميدفيديف، واصفاً إمكان انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومؤكداً بوضوح عزم روسيا على الرد في البلطيق، بالذات من كالينينغراد حيث لروسيا ترسانة أسلحة نووية. وليام بيرنز حذّر من احتمال سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استخدام سلاح نووي تكتيكي بسبب "انتكاسات" روسيا العسكرية في أوكرانيا و"يأس" القيادة الروسية، وقال: "لا يمكن لأي منا التعامل باستخفاف مع التهديد الذي يمثّله اللجوء المحتمل إلى أسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة نووية منخفضة القوة"، ملمّحاً إلى أنه في ظل مثل ذلك التطور "سيتدخّل حلف شمال الأطلسي عسكرياً على الأرض في أوكرانيا، في سياق هذا الصراع"، مؤكداً أن الرئيس جو بايدن قلق من حرب عالمية ثالثة وبشأن "تجنّب العتبة التي يصبح فيها الصراع النووي ممكناً".

 

نقطة الخلاف التي باتت شرارةً لحرب عالمية نووية، هي توسيع عضوية حلف الناتو الذي أدّى بروسيا إلى ارتكاب الخطأ الفادح بغزوها أوكرانيا، منعاً لانضمام أوكرانيا إلى الحلف العسكري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة وتعتبره موسكو معادياً لها، يتوسّع على حدودها لتطويقها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالب بضمانات مكتوبة - عندما أطلق إنذاره الشهير منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي - بعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وعدم توسيع عضوية الحلف. استخفّ الناتو بمطالب بوتين وإنذاراته، ففقد صوابه وقام بغزو أوكرانيا، في أكبر تخبّط استراتيجي أسفر عن توحيد الصفوف الأميركية والأوروبية داخل الحلف، وعن أرجحية توسيع عضويته إلى 32 دولة إذا التحقت فنلندا والسويد به، وعن حشد المزيد من قوات الناتو في دول أوروبا الشرقية.

 

فنلندا التي لها حدود مع روسيا تبلغ 1340 كيلومتراً، ستدرس خيار الانتماء إلى الناتو الأسبوع المقبل، عندما يتلقى أعضاء في مجلس النواب تقريراً استخباراتياً حول العضوية، وهلسنكي تنوي اتخاذ قرار الانتماء أو عدم الانتماء إلى الناتو "قبل منتصف الصيف"، حسب قول رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين.

 

استوكهولم قد لا تتقدّم نحو العضوية في الناتو، بالتزامن مع طلب هلسنكي، لكن السويد تبدو مستعدّة للانتماء إلى الحلف الغربي بسبب ما أسفرت عنه سقطة روسيا في أوكرانيا. فالخوف هو من كالينينغراد التي تبعد حوالى 500 كيلومتر عن استوكهولم، وفيها المنطقة الأكثر تسليحاً في روسيا بالصواريخ وبالقدرات النووية التكتيكية. بولندا التي تبعد بالمسافة نفسها عن كالينينغراد، أعلنت أنها تفكّر بالسماح للولايات المتحدة بنشر أسلحة نووية على أراضيها، فجاء رد روسيا بالتعهد بالرد نووياً على أي خطوة نووية. أوروبا كلها ترتجف خوفاً مما قد يأتي عليها من كالينينغراد، النقطة الساخنة المرشحة للمواجهة المباشرة ما بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا.

 

الناطقون باسم الحكومتين الروسية والأميركية أوضحوا التضارب التام في تقويم الولايات المتحدة وروسيا لتوسيع العضوية، وعواقبه، إذ يعتبره الأميركيون عنصراً داعماً للأمن والسلام الأوروبيين، ويراه الروس عنصر لااستقرار لأوروبا، بل استفزازياً بهدف المواجهة.

 

الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف لم يطلب من حلف الناتو ضمانات مكتوبة بعدم توسيع عضوية الحلف، وهذا أمر يُلام عليه في الأوساط الروسية بالذات من قِبَل فلاديمير بوتين، الأمر الذي يفسّر إصرار بوتين على ضمانات أمنية مكتوبة من الناتو قبل حربه على أوكرانيا. غورباتشوف اعتبر توسيع عضوية الناتو متنافياً مع روح التطمينات التي قدمها قادة الناتو إلى موسكو عام 1990. لكنه اعترف بأن الوعود الرسمية أو الضمانات المكتوبة لم تكن مطروحة على الطاولة. بذلك اعترف بخطئه الفادح بأنه لم يطلب الضمانات المكتوبة مع حلّ حلف وارسو عام 1991. حلف وارسو ضم الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية التي وقعت تحت لوائه في حلف عسكري، انتهى بانتهاء الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفياتي بعد 36 سنة على إنشائه. يُذكر أن حلف وارسو أتى عام 1955 كردّ فعل على قرار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في أوروبا بضم ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي.

 

الرئيس الروسي الأسبق ديمتري ميدفيديف، المقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين، رفع مستوى التهديد النووي رداً على توسيع الناتو ليشمل فنلندا والسويد، وقال إن روسيا لن تقبل بعد ذلك بالكلام عن منطقة البلطيق كمنطقة خالية من الأسلحة النووية، حيث تبعد كالينغراد عن ليتوانيا مجرد أربع ساعات. دول البلطيق الثلاث، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، دول أعضاء في حلف الناتو وفي الاتحاد الأوروبي. والتهديد الروسي واضح في هذا الإطار كما أعلن عنه ميدفيديف قائلاً إن روسيا "ستعزّز كثيراً قواتها البرية ودفاعاتها الجوية، وستنشر قوات بحرية وازنة في خليج فنلندا".

 

وفي هذه الحالة، تابع ميدفيديف: "يكون من غير الممكن الحديث من الآن فصاعداً عن وضعية لا نووية في البلطيق"، متحدّثاً عن أنه "يجب إعادة التوازن"، ومشيراً إلى أنه سيكون من حق روسيا أن تنشر أسلحة نووية في المنطقة. ميدفيديف، باختصار، قال إن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو "سيجعل العالم أكثر خطورة"، وإن لا أحد يريد "سفناً بأسلحة نووية على مسافة ذراع من وطنه"، مخاطباً الرأي العام في البلدين.

 

في هذه الأثناء، يزداد الوضع العسكري في أوكرانيا سوءاً وخطورة، وسيزداد على وقع وصول أسلحة متطوّرة من الدول الغربية إلى أوكرانيا تنوي موسكو تدميرها. ومع استمرار اللا تقدّم في المفاوضات السياسية بين روسيا وأوكرانيا، وارتفاع مستوى ثقة الأوكرانيين بأنفسهم عسكرياً ودفاعياً، يبدو فلاديمير بوتين أكثر توتّراً... وأكثر خطورة. الكلام يصبّ في خانة تصعيد عسكري في كييف العاصمة، وليس فقط في منطقة دونباس، وهذا يتطلّب المزيد من القوات الروسية والقدرة الاستراتيجية على استعادة زخم المبادرة.

 

في هذه الأثناء، تستمر إدارة بايدن في حشد العقوبات على روسيا وحجب أي دعم لفلاديمير بوتين أينما كان وكيفما كان. فهي تصرّ على استبعاد روسيا، وليس مجرد فلاديمير بوتين، من قمّة العشرين التي ستُعقد في إندونيسيا هذا الخريف. واشنطن تضغط على الدولة المضيفة كي لا توجه دعوة إلى دولة روسيا. البعض يحاول إقناع إدارة بايدن بأنه من الضروري التمييز بين استبعاد روسيا واستبعاد بوتين عن قمّة العشرين G-20 كي لا يزداد غضب الشعب الروسي من الإجراءات الغربية ضد بلدهم وضدهم. لكن حتى الآن، ليس واضحاً إن كانت واشنطن ستقبل الحل الوسط بأن توجّه الدعوة إلى روسيا، وليس إلى بوتين الذي لن يتوجّه في هذه الحال إلى القمّة.

 

الرئيس الأميركي صدَّ كلياً أي أمل بإعادة العلاقة الأميركية - الروسية إلى مسار طبيعي، حتى ولو توقّفت الحرب الأوكرانية بقرار من بوتين. جو بايدن صعّد أكثر فأكثر تدريجياً، وليس اعتباطياً كما بدا قبل أسبوعين، وذلك بإلحاق وصفه فلاديمير بوتين بأنه سفاح ومجرم حرب وبلطجي، باعتبار ما يقوم به الجيش الروسي في أوكرانيا "إبادة جماعية". بمثل هذا التصنيف، انقطعت العلاقة الأميركية - الروسية ولم يعد هناك "خط هاتفي أحمر" يحمي الكون من حرب نووية. ثم إن "الإبادة الجماعية" تتطلّب من الدول التدخّل مباشرة لوقفها. والسؤال هو: هل تستعدّ الولايات المتحدة للتدخّل مباشرة في الحرب الأوكرانية ضد روسيا؟ هل اتخذت إدارة بايدن هذا القرار وهي تنتظر تبرير التدخل عبر استفزازات بوتين التي هي بدورها لا تتوانى عن استفزازه لها؟

 

تحرّك إدارة بايدن مع دول خارج الجيرة الروسية - الأوروبية له دلالات مهمّة ببعدها الروسي والصيني. والكلام عن الهند وباكستان، وهما بدورهما قوتان نوويتان، وبينهما خلافات على مختلف الأصعدة من كشمير إلى الصين وروسيا.

 

المحادثات الافتراضية التي عُقِدت هذا الأسبوع بين الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وبين وزيري الخارجية والدفاع، كان عنوانها الأساسي تباعد المواقف نحو روسيا وتقاربها نحو الصين. رفضت الهند الضغوط الأميركية للانخراط في حملة المقاطعة والعقوبات الدولية على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا. وفشلت الضغوط الأميركية الرامية لإيقاف الهند استيرادها للنفط من موسكو. ولكن، إن ما أحرزته المحادثات على صعيد النفط والأسلحة وباكستان، ليس أبداً بقليل الأهمية.

 

المحادثات رسّخت العزم على استمرار العلاقة الاستراتيجية والتحالف الوثيق لمواجهة الصين في المحيط الهادئ والمحيط الهندي. تم الاتفاق على تعزيز التعاون الصناعي الدفاعي البحري، والاستفادة نوعياً من أحواض بناء السفن الهندية. وتم الاتفاق على بيع أسلحة أميركية للهند، الهدف منها أن تصل الأمور إلى استغناء الهند عن شراء الأسلحة الروسية والفرنسية أيضاً، بحسب المصادر. هذا إلى جانب المساعدة الأميركية بالتعويض قدر الإمكان عن النفط الروسي، لكن من دون الاستغناء عنه، الأمر الذي ترفضه نيودلهي لأنها لا تريد إيقاف العلاقات الجيدة مع روسيا. إدارة بايدن اضطرت للتعايش مع ذلك، لأن الهند ضرورية للولايات المتحدة في إطار التحالف ضد الصين، ولأن واشنطن تحترم الحزم عندما يُفرَض عليها، لا سيّما إذا اقترن بالتلميح إلى خيارات أخرى، مثل دفع الهند إلى تقارب وتفاهم أكثر مع روسيا اليوم.

 

أما باكستان، فإنها دخلت المعادلة الأميركية - الروسية، بما أدّى إلى قيام رئيس الوزراء الأسبق عمران خان بتوجيه تهمة "المؤامرة الأميركية" لإزاحته عن السلطة بمساعدة الجيش الباكستاني، بسبب زيارة له لموسكو في اليوم الذي بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا. بغضّ النظر عن صحة هذه التهمة أو عدم صحتها، فتّش عن الصين في المسألة، ليس فقط روسيا. ذلك أن باكستان، في نظر إدارة بايدن، تمادت في خدماتها للصين كما تمادت الصين في استخدامها لباكستان في أكثر من مكان ومحطّة.

 

من سيربح استراتيجياً في هذه الحروب الجغرافية - السياسية؟ من يصوغ قواعد الاشتباك وقواعد التفاهمات الجديدة في ظل زوال القواعد القديمة؟ هذه الأسئلة مصيرية في زمن الكلام عن اشتباكات نووية في حرب عالمية ثالثة عسى ألّا تقع.