ما تتطلبه المرحلة وتقتضيه التحديات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

للشعب الفلسطيني خبرة طويلة في الكفاح راكمها منذ أيام الانتداب البريطاني، وفي كل مرحلة كان يجترح أدواته النضالية، ويبتكر بعبقريته وسائل المقاومة. بعد الاحتلال، فجر ثورته المسلحة، ومارس الكفاح المسلح عبر مئات العمليات الفدائية، والمواجهات المباشرة، والعمليات الانتحارية، والصواريخ، وحتى خطف الطائرات، وجرَّب المقاومة الشعبية عبر انتفاضتين كبيرتين، وعشرات الانتفاضات الصغيرة، جرب العمل السياسي والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وراهن على مجلس الأمن، وعلى تحالفاته الدولية، جرب المقاطعة الاقتصادية، والكفاح الدبلوماسي.. أي أنه جرب كل الوسائل، ولم يبخل بالدم والتضحيات.
وبعد هذه المسيرة الحافلة بالتضحيات، آن الأوان للاستفادة من التجارب السابقة، وأن نعيد النظر في كافة أساليب المقاومة وأدواتها، وأن نجري تقييما جديا، جريئا، متحررا من سطوة النص وقداسة المصطلحات.
في الانتفاضة الأولى، قدم الفلسطينيون نموذجا رائعا في المقاومة الشعبية، ونجحوا من خلالها في تحويل مشروع المقاومة من مشروع فصائلي يعتمد العمل العسكري، إلى عمل شعبي عارم ومنظم، تمكن من إحداث تحولات نوعية عميقة في نهج المقاومة وأساليبها أثبتت نجاعتها، كما أحدثت المقاومة الشعبية تغيرات جوهرية في وعي العالم بالقضية الفلسطينية ونظرته تجاه إسرائيل.. صحيح أن تلك الانتفاضة لم تنجز الاستقلال، لكنها كانت محطة مهمة وتراكما آخر يُضاف إلى المسيرة، ويقرب موعد النصر. ومع ذلك، حدثت فيها أخطاء كثيرة، سنشير إليها لاحقا.
الانتفاضة الثانية، كانت بداياتها شكلا رائعا ومتقدما للمقاومة الشعبية، وكان من الممكن أن تحدث تغييرا جذريا في واقع الصراع، ولكن فصائل المقاومة عملت على عسكرة الانتفاضة مبكرا، وبشكل غير مدروس، وأوغلت في العمليات التفجيرية، فاقترنت المقاومة بالعمليات الاستشهادية، وصار سقف النضال والمشاركة في الانتفاضة عاليا، ولم يعد بمقدور الجماهير الانخراط في فعالياتها، وبالنتيجة فُرغت من المحتوى الشعبي، ثم استدرجت الفصائل إلى الميدان الوحيد الذي لا تملك فيه القدرة على تحقيق نتائج فاعلة، وبذلك فقد اختزلت كافة النتائج الإيجابية التي راكمتها الانتفاضة الأولى، وعاد المجتمع الدولي لأسئلة شرعية العنف وقتل المدنيين بدلاً من أسئلة الاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال.
بعدها دخل الفلسطينيون مرحلة جديدة اتسمت بالركود، والنكوص، وتراجع الفعل النضالي، حصل فيها الانقسام، وتراجعت القضية الفلسطينية بشكل خطير، كما شنت إسرائيل خلالها أربع حروب تدميرية على غزة.. وواصلت تنفيذ مخططاتها الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية.. ومع ذلك حصلت حالات عديدة من أشكال المقاومة، كانت إما محدودة، وقصيرة الأمد، أو فردية.
في حزيران 2014، وبعد خطف الفتى المقدسي أبو خضير وحرقه حياً من قبل المستوطنين، خرجت تظاهرات عارمة في عموم المدن الفلسطينية، كادت تتحول إلى انتفاضة، لكن إسرائيل استغلت قصة مقتل المستوطنين الثلاثة، وإعلان «حماس» مسؤوليتها عن العملية، فحولت مدافعها باتجاه قطاع غزة، وشنّت حربا عدوانية عليها، ببساطة لأن إسرائيل تفضّل حربا في غزة على انتفاضة في الضفة، خاصة إذا اشترك فيها المقدسيون وفلسطينيو الداخل.
في أيار 2021، انطلقت هبّة شعبية مقدسية، بدأت تتحول إلى حراك شعبي أوسع، أخذ ينتقل إلى مدن الضفة وغزة، حتى وصل إلى داخل الخط الأخضر، وكان على وشك التحول إلى انتفاضة شعبية شاملة، في كل فلسطين.. ولو قيض لهذا المسار الاستمرار والنضوج، لأمكنه إحداث تحول خطير في شكل الصراع، كان ممكنا له أن يُحدث تغييرا جذريا وشاملا في المعادلة السياسية. لكن دخول الصواريخ على الخط حوّل المواجهة الشعبية إلى حرب على غزة.
هذه الأيام، تشهد فلسطين حالة سياسية تشبه الحالة التي سبقت الانتفاضتين الكبيرتين: انغلاق الأفق السياسي، تصاعد الاستيطان، حتى وصل إلى مرحلة خنق الفلسطينيين، من حيث السيطرة على مصادر الحياة وفضاءات الحركة، حتى لم يعد الفلسطيني قادرا على التنقل بين المدن، وتصاعد استفزازات المستوطنين، وتواصل عمليات الاعتقال والاغتيالات، مع فقدان الأمل بنصرة الشعوب العربية، أو بتدخل المجتمع الدولي، ورفض الحلول السياسية الهزيلة المطروحة نتيجة ضعف الجبهة الفلسطينية الداخلية، وبذلك يكون الاحتلال قد بلغ مرحلة خطيرة تهدد الوجود الفلسطيني برمته. ما يضع الفلسطينيين أمام خيار وحيد: تصعيد النضال ضد الاحتلال، والعودة إلى الذات، خاصة بعد الإحباط الذي رأوه من المجتمع الدولي عندما هبَّ للوقوف مع أوكرانيا، وقدم لها كل أشكال الدعم العسكري والسياسي، وفرض على روسيا عقوبات غير مسبوقة، بينما تجاهل كل الممارسات والجرائم الإسرائيلية.
مثل هذه الحالة من المفترض أن تؤدي إلى انتفاضة شعبية، فالانتفاضة تنشب عندما يلتقي الأمل واليأس معاً؛ أي عندما تصل الجماهير إلى مرحلة اليأس من المجتمع الدولي، واليأس من الحلول المطروحة، واليأس من طريقة إدارة الصراع المتبعة، ويلتقي هذا اليأس مع الأمل بإمكانية التغيير، والأمل بأن الحراك الشعبي سيكون في الاتجاه الصحيح وبالأساليب الصحيحة، والثقة بأن هناك قيادة حكيمة ومخلصة ستقود هذه الانتفاضة بطريقة صحيحة، والأمل برؤية النور في آخر النفق المظلم.
وحتى تحصل الانتفاضة فعلا، وتتسع، وتتعمق، وتدوم، يتوجب توفير جملة من العوامل المساعدة، أهمها إنهاء الانقسام، وتبنّي القيادة الفلسطينية خطا سياسيا جديدا، أساسه برنامج المقاومة، وتبني الفصائل نهجا مقاوما جديدا، يستفيد من التجارب السابقة، ومن أخطائها، يقوم على المقاومة الشعبية فقط، لأنها الشكل الوحيد المتاح والصحيح الذي يخدم ويتكامل مع الأدوار السياسية والدبلوماسية والقانونية والإعلامية، بما يحقق مكاسب سياسية، ويمكّن الجماهير من الصمود والاستمرار، بأقل قدر ممكن من التضحيات، ولا يمنح العدو انتصارات عسكرية مجانية.
وهذا يقتضي ألا تتدخل فصائل المقاومة في غزة من خلال الصواريخ، لأن هذه الخطوة ستجلب على الفور حربا جديدة مدمرة على غزة، وستحول الجماهير الفلسطينية من دور المشاركة في النضال إلى دور المتفرجين على شاشات التلفاز، يتابعون أخبار الحرب، وفي أحسن الحالات ينظمون تظاهرات شعبية منددة بالحرب.
وبدلا من ذلك، على «حماس» و»فتح» إنهاء الانقسام فورا، والانخراط معاً ومع بقية الفصائل والقوى الوطنية في مواجهة مباشرة مع الاحتلال.