سيظل الحديث عن الأزهر مصدراً لجاذبية خاصة، باعتباره أيقونة إسلامية على أرضٍ مصرية، والذين يتحدثون عن الأزهر كثيراً، بل ينتقدون بعض مظاهر الأداء فيه، إنما يفعلون ذلك من منطق الإكبار له وتحميله ما لا طاقة له به، وهي طموحات وآمال معقودة عليه والنتائج المنتظرة منه، فالأزهر الشريف قلعة دينية حفظت التراث الإسلامي ووضعت اللغة العربية (لغة القرآن) في مكانها الطبيعي لساناً لشعوبٍ تلقفت الدعوة واحتفت باللغة على مر الزمان، ولقد أصبح الأزهر الشريف في مرمى حجر في السنوات الأخيرة، على الرغم من النهضة الملموسة فيه، ذلك أن هناك من يطمحون في المزيد ويريدون لهذا المركز الإسلامي السني العريق أن يصبح بحق أداة للإصلاح ومصدراً للتنوير لا يسبقه العصر ولا يتخلف عن أدواته مهما كانت الأسباب، فلقد دخلته العلوم الحديثة وتنوعت فيه الدراسات المتقدمة، فلم يعد هناك مبررٌ للجمود أو التوقف الماضوي أو الابتعاد عن التجديد الذي هو سُنة الحياة بما لا يمس جوهر العقيدة أو ثوابت الدين، ولنا هنا عدد من الملاحظات أهمها:
أولاً: إن الإمام الأكبر الحالي أستاذ للفلسفة الإسلامية أكمل جزءاً من دراسته العليا في فرنسا، وهو الطريق الذي سلكه المجددون من قبله بالابتعاث بالخارج والارتباط بعلومه بدءاً من الإمام محمد عبده، مروراً بأسماء أخرى مثل محمد البهي ومحمود زقزوق، وهما نتاج المدرسة الألمانية في الدراسات الإسلامية، ولكن يبقى الإمام الطيب فريد بابه، فهو ابن بيتٍ عريق في صعيد مصر، عُرف بشدة الالتزام بما يؤمن به والقدرة على التوازن في شتى المواقف، فضلاً عن علمٍ غزير وخلقٍ كريم واحترامٍ للذات وحرص شديد على كبرياء الدعوة ومكانة الأزهر.
ثانياً: أتذكر بكل الاهتمام والتقدير الدعوة التي تلقيناها - مجموعة من المثقفين المصريين مسلمين ومسيحيين رجالاً ونساءً - بعد أحداث كانون الثاني 2011 من الإمام الأكبر يدعونا فيها إلى لقاءاتٍ منتظمة في مقر المشيخة بحضوره مع وزراء الأوقاف المتعاقبين وكبار رجال الدعوة في الأزهر الشريف، وكان اللقاء يمثل كافة الاتجاهات المتشددة والوسطية والمعتدلة، مع تنوع تمثيل المدارس الفقهية بين الحاضرين، بل لقد كان اليسار المصري وبعض رموز التنوير ممن يحملون على الأزهر أحياناً بحق وبغير حق ممثلين في تلك اللقاءات، ولكن سعة صدر الإمام والروح الوطنية المصرية التي سادت اللقاء بين المتحلقين حوله وضعتانا في أجواء جديدة صدرت عنها وثائق كبرى هي وثائق الأزهر الشريف في ذلك الوقت، والتي اتسمت بالعمق والاعتدال مع احترام الثوابت والرغبة الحقيقية في التجديد. وأتذكر في هذا السياق دور الوزير الراحل الدكتور محمود زقزوق، والمستشار الراحل للإمام الأكبر الدكتور محمود عزب، كما أتذكر أننا اعتمدنا في الصياغة على الناقد الأدبي الكبير الدكتور صلاح فضل، يعاونه مثقف مصري مرموق هو الأستاذ نبيل عبد الفتاح، واتسمت روح هذه اللقاءات بالحوار الحر البنّاء حول قضايا حرية التعبير وتمكين المرأة والترحيب بالفنون والآداب التي تلتزم بقيم المجتمع وأخلاق أجياله.. فجاءت الوثائق نقاطاً مضيئة في تاريخ تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى، وجرت ترجمة نصوصها إلى اللغات المختلفة، واستبشرنا جميعاً خيراً بأن الأزهر الشريف تمكّن في عهد إمامه الجليل من إصدار تلك الوثائق، ولكنها توارت وراء الأحداث ولم يعد ذِكرها قائماً حتى تجددت الدعوة إلى مضمونها من رئيس البلاد عبد الفتاح السيسي عندما تولى منصب الرئاسة وطرح موضوع تجديد الفكر الديني هدفاً وغاية له ولمسلمي مصر ومسيحييها على السواء.
ثالثاً: إن الأزهر الشريف في ظني يحتاج إلى مراجعة المناهج الدراسية، خصوصاً في السنوات الأولى للتعليم مع رقابة علمية مطلوبة على المعاهد الأهلية المنتشرة في ربوع البلاد، إذ إن المعلومات المتوفرة عنها أن من يقومون بالتدريس فيها غير مؤهلين لذلك، فضلاً عن اضطراب المناهج وغياب الرؤية وضعف المستوى العلمي بشكل ملحوظ. ولا أتصور ذلك الأمر في أماكن هي الأولى بحفظ كتاب الله وتداول علوم القرآن والفهم الصحيح لسنة رسوله تمهيداً للقدرة على تنقية الفقه الموروث الذي آل إلينا بعد العصور التي كان بعضها مزدهراً وبعضها الآخر مظلماً وبائساً.
إنني أكتب هذه السطور على مشارف الشهر الكريم، لكى أجدد الاحترام للأزهر الشريف وإمامه الرشيد، مع أمنياتٍ أن يلعب الأزهر دوره المنتظر الذي يقوم على تراكم خبرة أكثر من ألف عام كان فيها مركزاً لعلوم الدين واللغة وملاذاً للحركة الوطنية ومصدراً للاعتدال والوسطية