يُرجِعُ كُثُرٌ أحد أبرز أسباب احتدام الصراع حول الحرم القدسي الشريف إلى اتساع حجم المجموعات اليهودية المسيانية المتطرّفة التي تعتبر أن الهيكلين، الأول والثاني، أقيما في موقع الحرم، وتدعو إلى إعادة بنائهما. وتنظّم هذه الحركات دخول مجموعاتٍ يهوديةٍ إلى الحرم يكون عادةً تحت حماية عناصر الشرطة الإسرائيلية، غير أن المؤسّسة الدينية اليهودية تحظر دخول اليهود إلى الحرم، وهي تعلّل هذا بأن الظروف الحالية لا تسمح بذلك، لأنه ينبغي أن تتوفر عدة أمور قبل الدخول إلى المكان، وبضمنها ظهور "المسيح المُنتظر". وثمّة من يعتقد، وفي هذا جانب من الصواب، أن الخلاف الديني اليهودي حول إباحة الصلاة أو تحريمها في باحة الحرم لا معنى له بتاتًا، لأنه لا يلغي واقع أن من يحلّل أو يحرّم لا يعترف بأن الحرم إسلامي، والفارق بينهما يرتبط بمتطلبات اللحظة والمخاطر المتوقعة فقط، لا بالغاية البعيدة، المُشتهاة.
ويتوازى اتّساع حجم هذه الحركات مع تعزيز طابع إسرائيل الديني في بُعده الأرثوذكسي خلال الأعوام الأخيرة، ما حوّلها إلى دولةٍ يهوديةٍ أكثر أرثوذكسية. وساهمت في ذلك، من بين أمور أخرى، مجموعة قوانين وسلوكيات اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في سياساتها بشكل عام. وفي ما يتعلق بتديين المجال العمومي، وهذا ينعكس على علاقة الدين والدولة، وعلى قوة الشارع العلماني ونفوذه، ويؤدّي إلى إعطاء مجموعة صغيرة في المجتمع الإسرائيلي إمكان التحكم والهيمنة في هذا المجال، وفي نمط الحياة في المجتمع الإسرائيلي، كما أنه يساهم في تأزيم علاقات إسرائيل مع الجماعات اليهودية في العالم، والتي لا تنتمي في غالبها إلى التيار الأرثوذكسي.
ولكن الأساس يظلّ أن هذا الصراع ينطلق من أول مُحرّكات الفكر الصهيوني، الذي قد يكون نشأ في كنف دعاوى علمانية، بيد أنه سرعان ما أدرك أنه لن يستقيم من دون المبرّر الديني، ولا سيما في ذلك الجانب المتعلق بـ"الحق التاريخي" و"الوعد الإلهي". ومنذ بدايتها، تحدّثت الحركة الصهيونية، كما يؤكّد باحثون إسرائيليون أيضًا، بصوتين: البراغماتي الذي سعى إلى إقامة دولة يهودية، والنبوئي الذي ينسب إلى إقامة دولة كهذه دلالات الخلاص اليهودي. ومن هؤلاء من يعتبر أن ازدياد "حركات الهيكل" يُعدّ "جزءًا من توجهات ما بعد صهيونية"، مشيرًا إلى أن "المشروع الصهيوني وصل إلى نوع من استنفاد ذاته، وتنشأ مكانه حركاتٌ تطرح أسئلة حول جوهر المشروع الصهيوني ومضمونه وشرعيته. وهي حركاتٌ تقول إن الصهيونية أحضرت اليهود إلى هنا، والآن حان الوقت للتحرك قدمًا، ولأن نستمر من هنا، الآن هو وقت الخلاص".
كما أن هناك بينهم من أعاد إلى الأذهان تحذيرًا أطلقه الباحث في شؤون الصوفية اليهودية، غيرشوم شالوم، عام 1926، مما سماها "القوة الدينية المخزنة بكثافة" في الصهيونية، متسائلًا فيما إذا كانت ستنفجر يومًا ما؟
وتمثلت أولى نُذر هذا الانفجار في حرب حزيران 1967، والتي نُشرت في إثرها صورة لجندي إسرائيلي وهو يجهش في البكاء عند "حائط المبكى" (البراق) في كل أنحاء العالم، وبدت في نظر كثيرين كما لو أنها تعبّر، في عيون الإسرائيليين، عن مضمون مُركّبٍ جديدٍ للدولة والمقدّس، أو لما وُصف بأنه "العسكرية والتوراتية". وفي هذا الصدد، كتب أحد الصحافيين في صحيفة معاريف، وهو يحكي كيف جرى تحرير "العاصمة" قائلًا: "جاء المسيح المخلص إلى القدس أمس .. كان متعبًا وشايبًا، وكان يركب على دبابة"!
هناك أكثر من واقعة على أن إسرائيل الرسمية كانت مدركة ما حذّر منه شالوم، وكذلك لأن السيطرة على الحرم القدسي الشريف ستفجّر مشاعر دينية يهودية مكتومة، مُقدّر لها أن تتسع بمرور الوقت، وأبرز هذه الوقائع تفيد بأن وزير الدفاع الإسرائيلي لدى احتلال القدس في 1967، موشيه دايان، تردّد بعض الشيء قبل إصدار الأمر باحتلال الحرم، وتساءل "ما حاجتنا إلى كل هذا الفاتيكان؟"، غير أن تردّده لم يدم أكثر من 12 ساعة.
عن "العربي الجديد"