الهروب من إسرائيل

حجم الخط

بقلم:حلمي الأسمر

 

يندُر أن يتحدّث أحد عن عمليات الهروب من كيان العدو، ومن يتحدّث فيه يكون على استحياء، وفي سياق غير متوقع، أو غير السياق الواجب أن يجري الحديث فيه، كأن يتحدّث أحدهم عن أهمية حصول الإسرائيلي على جواز سفر ثان، على سبيل "الاحتياط!"، في حال احتاج الأمر إلى الهروب من "أرض الميعاد". وفي هذه المسألة تحديدا ممنوع الحديث فيها، باتفاق صامت بين الجميع، فلا نعرف مثلا كم عدد سكان الكيان اليهود الذين يحملون جنسية ثانية، أما هم أو من يخطّط ويدبر فبالتأكيد يعرفون، ولا يجرؤون على الحديث فيها، ويمكن هنا تقدير عدد هؤلاء من واقع قراءة عدد من "هاجر" إلى الكيان تاركا بلده الأصلي، فمن جاءوا من بلاد عربية أو شرقية يفترض أنهم لا يعودون يحملون جوازات سفرها، أما من جاءوا من بلاد الغرب فالمفروض أنهم لم يزالوا يحتفظون بجنسياتها. وبحسبة عشوائية مقاربة للواقع، لو افترضنا أن الشرقيين والغربيين يقتسمون الكيان مناصفة، فهذا يعني أن لدى نصف "البلد" جوازات سفر أخرى مفعلة وجاهزة للاستعمال في حال اقتضى الأمر الهرب من "بلاد السمن والعسل".

في أماكن نادرة رصدتُها غير مرّة، تحدث كتّاب وأعلام يهود عن هذه الاحتمالية، جاءوا على ذكرها عرضا وسريعا، في معرض الحديث عن تحوّل "الأرض الموعودة" إلى أرض صراع دائم، بعد أن اتضحت أكاذيب وأوهام كثيرة قامت على أسسها، منها مثلا مقولة بن غوريون إن الكبار يموتون والصغار ينسون، فلا الكبار ماتوا "كلهم" ولا الصغار ينسون، بل ربما حرس الصغار حلم الكبار و"جرّموا" من نسي من الكبار. ومن تلك المقولات الفاشلة فشلا ذريعا أن فلسطين أرض بلا شعب، وتلك أكبر كذبة شهدها تاريخ المنطقة، ولم يدانيها في الكبر إلا كذبة سعي النظام العربي الرسمي إلى "رمي إسرائيل في البحر"، ذلك أن هذا النظام رمى في البحر أبناء البلاد وملاكها من الفلسطينيين الذين سهل النظام العربي الرسمي هجرتهم باتجاه بحر الرمال شرقا، وبحر الماء غربا، وتلك مفارقةٌ بدت أكثر افتضاحا بعد أن هرول رموز هذا النظام إلى ما يسمّى "التطبيع"، وهو تعبير أكثر صدقا في توصيف الحال، لأنه يعني العودة إلى الصيغة "الطبيعية" بين الأطراف. وكان المخيال العربي الشعبي واهما، حين جفل من استعمال المصطلح على اعتبار أنه "لم يكن يعرف" أن ولاة أمره يعيشون "علاقة طبيعية"، بل ربما غرامية، مع عدوه الأزلي، وأن كل زمجرات وسائل إعلامهم باتجاه "العدو الصهيوني" لم تكن إلا جعجعة بلا طحن وكذبا وقحا، فقد كانت المياه تسري من تحت أبناء الشعب العربي، الذي ظل ينتظر "التحرير" فجاءه العصر الذي يعاقب فيه العربي على حبّ فلسطين، ناهيك عن ترجمة هذا الحب إلى عمل، حيث يصبح التحرير أو التفكير فيه "إرهابا" يستحق العقاب في "قوانين الأمن القومي العربي!". ولعل هذا الدرك الذي وصل إليه العربي هو ما جعله أكثر حرصا من "الإسرائيلي" على الهروب من بلاده وحيازة جواز سفر ثان، ودفع هذا المسكين ثمنا باهظا لتحقيق هذا الحلم الذي طالما ابتلعه السمك في بحار العالم التي لم تحتمل تحقيق هذا الحلم، فدأبت على تغييب "قوارب الموت" في ظلمات الماء، ولم نسمع بالقطع عن زورق يحمل "يهودا" أو أوكرانيين مثلا حاول "العودة" أو الهرب إلى الخارج، فهؤلاء يُستقبلون عادة بالأحضان الدافئة وبيوت الإيواء المجهزة بما لا يحلم به معظم العرب في بلادهم!

(2)

في قصة هروب الغرباء من فلسطين وطبيعة مشاعرهم تجاه الأرض التي اغتصبوها مسألتان: الأولى متعلقة بما يسمّونها ذكرى الكارثة، والمقصود بها ما حلّ باليهود على يد النازية في القرن الماضي، ثمّة منظمة تسمى "بنيما" (الداخل) أجرت استطلاعا حديثا بمناسبة اقتراب ذكرى "الكارثة" يتبين منه أن 47% من الإسرائيليين يخشون من كارثة ثانية للشعب اليهودي. يطرح الاستطلاع النادر الأسئلة الأكثر تفجرا بالنسبة لحفظ الذاكرة والخوف الوجودي لمجتمع قام على أساس سرقة أرض وحياة شعب آخر، وضمن أمور أخرى، الخوف من كارثة ثانية، تتسبّب بها حالة الصراع المحتدم مع السكان الأصليين، الذين لم يسلّموا باغتصاب أرضهم، ويبدو أنهم لن يفعلوا هذا لا في المستقبل القريب أو البعيد، وهو أمرٌ يرفع نسبة الخوف في أوساط كثيرين، ويجعلهم أكثر حرصا على حيازة طوق نجاة، وهو جواز سفرٍ ثان، للهروب في الوقت المناسب!

يتبيّن من استطلاع المنظمة التي تضم "نخبة من رجال الكيان بينهم رئيسا أركان جيش العدو السابقان بيني غانتس وغابي أشكنازي، (غانتس وزير الحرب الحالي) ومجموعة من القادة السياسيين والعسكريين السابقين والقادة الاجتماعيين، أن النساء يخفن أكثر (55%) مقارنة بالرجال (42%). بينما الشبان أيضا في تفاصيل الاستطلاع التي ربما تظهر بعض جوانب المسألة، وتحدد من يخافون أكثر: 24% من الإسرائيليين حتى سن 24 أشاروا إلى أنهم يخافون جدا من أن تكون كارثة ثانية (لهذا دلالة على انعدام اليقين لدى الشبيبة من المستقبل المخيف الذي ينتظرهم)، مقابل 12% في أوساط الإسرائيليين فوق سن 45. كما يتبين أيضا أن 23% ممن عرّفوا أنفسهم يهودا – حريديم قالوا إنهم يخافون جدا من أن تكون كارثة ثانية، مقابل 11% في أوساط العلمانيين. ومصدر خوف الحريديم كما يبدو نابع من أنهم متدينون ويعرفون أكثر من غيرهم نبوءات في التوراة تشير إلى زوال "إسرائيل" ودمارها، وبالتالي حدوث كارثة ثانية!

في السياق الطبيعي، شعور الخوف هذا يكفي لتهيئة النفس للهرب من كارثة محتملة، وهو لافت جدا لجهة ارتفاع نسبة الخائفين، ولعل هذا يعلّل مرة أخرى وجود الحرص لدى "الإسرائيلي" للحصول على جواز سفر ثان.

أما المسألة الأخرى التي تلفت النظر فهي خاصة بعدد ساكني مستعمرات الضفة الغربية، وحقيقة "هروب" عدد كبير منهم منها، خلافا لما أعلنه رئيس مجلس المستوطنات (المسمّى يشع) ديفيد الحيان، الذي خرج على الجمهور الصهيوني قائلا: "نحن سعداء لتبشيركم بأنه في هذه السنة يتوقع أن نتجاوز سقف نصف مليون مواطن في يهودا والسامرة". يعقب الكاتب شاؤول أريئيلي في مقال له بعنوان "لا تسمحوا للمستوطنين بالكذب عليكم" في صحيفة هآرتس يوم 21/4/2022.

"مثلما في كل سنة، بعد بضعة أسابيع على نشر تقرير مجلس "يشع"، أيضا المكتب المركزي للإحصاء نشر بيانات تظهر أن تقرير المجلس يكشف عن الجانب الإيجابي، ويخفي الجوانب السلبية. وهذه البيانات تحول احتفال النصر الاستيطاني إلى مهزلة. بعد فحص البيانات والتوجّهات الموجودة في تقرير المكتب المركزي للإحصاء، فإن ذرة الحقيقة في تقرير مجلس "يشع" تتضاءل، وتنقلب الأمور رأسا على عقب، ونحصل على صورة محزنة جدا بالنسبة لأتباع الأسطورة المذكورة أعلاه". والأسطورة التي يتحدّث عنها "يشع" أن عدد المستوطنين يزيد، أما الحقيقة فإن عددهم يقل، بل هناك عملية "هروب" من المستوطنات إلى الداخل الفلسطيني، وهذا ما تكشفه بالتفصيل بيانات المكتب المركزي للإحصاء، وفي وسع من يريد الاستزادة العودة إلى المقال.


من السابق لأوانه الحديث عن عملية هروب جماعي للمستوطنين، سواء كانوا في الأراضي المحتلة عام 1967 أو 1948. ولكن إن استمرّت عجلة الصراع بالدوران حسب وتيرتها الحالية، وتسارعها التدريجي كما هو باد من إيقاع الصراع، فلربما يشهد جيلنا هذا، أو الجيل القادم على أسوأ تقدير، عملية الهروب المنتظرة، ويمكن أن يُلاحظ هنا أن عملية الهروب هذه قد بدأت وإنْ بوتيرة بطيئة. وفق مراكز الإحصاء المتخصصة داخل "إسرائيل"، سجَّلت مؤشّرات الهجرة المعاكسة من "إسرائيل" إلى أوروبا أن 19 ألف يهودي بين عامي 2004 و2006 غادروا من دون رجعة، وجاء العدد الأكبر في 2007 حينما غادرها 25 ألفاً نتيجة فقدان الشعور بالأمان. ووفق دراسة صدرت عام 2018، بعنوان "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين"، بلغ عدد الذين تركوا "إسرائيل"، خلال العقود الأخيرة، بمن فيهم يهود الاتحاد السوفييتي السابق، مليوناً ونصف مليون.

ونشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إحصاءً صادراً عن مركز الإحصاء الإسرائيلي، وفيه أن عدد اليهود الذين غادروا "إسرائيل" عام 2015 فاق عدد الذين عادوا إليها، وأن نحو 16700 إسرائيلي غادروها فيه، من أجل العيش خارجها فترة طويلة. وكان هذا بعد العدوان الصهيوني على المقاومة الفلسطينية عام 2014، وعاد منهم فقط 8500، وهي أدنى نسبة تسجَّل منذ 12 عاماً. كما تفيد تقديرات إحصائية إسرائيلية، صدرت أخيرا، بأن ما يتراوح بين 800 ألف ومليون مستوطن، ممّن يحملون جواز سفر إسرائيلياً، يقيمون بصورة دائمة في دول متعدّدة، ولا يرغبون بالعودة إليها. عن "العربي الجديد"