عبرت من موت الى موت دون ان تموت

حمدي فراج.PNG
حجم الخط

بقلم : حمدي فراج

ماتت والدة الاسير كريم يونس . كل الناس يموتون ، كل الكائنات تموت ، بل ان كل الاشياء تموت . لكن والدة كريم الحاجة صبحية يونس التي ناهز عمرها التسعين سنة ، ماتت خلال الاربعين سنة الاخيرة من عمرها عدة مرات قبل ميتتها الاخيرة ، ماتت يوم اعتقال “كريم” عام 1983 عندما كان طالبا على مقاعد الدرس ، عندما كانت تنظر اليه خريجا وموظفا يعيل اسرتها على اعتبار انه ابنها البكر ، ماتت عندما كان يخضع للتحقيق والتعذيب سنة كاملة دون ان تعرف ان كان ظل على قيد الحياة ام على قيد الموت ، ماتت لهفة على زيارته أول مرة ، لتطمئن ان المسالخ لم تترك فيه آثارها و عاهاتها كما مع الخواجا و قطامش والعفوري والجمّال و الجعفري والراعي والعكاوي ، ثم لتطمئن انها لم تفت من عضده ، ولم تطف فيه جذوة نضاله و وطنيته و طلق روحه ومعنوياته ، و بعد عشر سنوات ماتت مرة اخرى بعد توقيع السلام ، ماتت هذه المرة خوفا من ان تكون المنظمة قد نسيته او غضت طرفها عنه كونه ابن عارة في الداخل ، ثم ماتت عندما علمت انها المنظمة قد نسيته فعلا ونسيت كل الاسرى ، وبدأت تناضل مع ذويهم في الاعتصامات كي يشمل السلام هؤلاء “الجنود” و تحريرهم من قيدهم ، ثم ماتت مرة اخرى عندما شملت الافراجات ابنها ، ولكن ضمن الدفعة الاخيرة ، ثم مرة اخرى عندما تنكرت اسرائيل لهذه الدفعة بالتحديد ، وطوي ملفه من ضمن ملفات عديدة من ضمنها القدس والمستوطنات واللاجئين و “عرب اسرائيل” ، ثم ماتت مرة أخرى عندما “سقط” اسمه “سهوا” من صفقة شاليط “وفاء الاحرار” ، هنا تجاوز عمرها الثمانين ، واصبحت بالكاد ترى ما أمامها ، وبالكاد تستطيع زيارته او حتى القيام باحتياجاتها ، هنا قلصت تطلعاتها وحصرتها في إحتضانه و شم رائحته قبل ان تغادر الدنيا ، وبذلت جهدها ان تبقى على قيد العهد والرجاء والحياة في انتظار انتهاء مدة محكوميته ، رجت الموت و ناشدته ان يغض الطرف قليلا عنها ، سنة أخيرة يا موت ، ويكون كريمها في البيت ، لكنه أبى .

تعامل معها بسخرية القط الذي يداعب فارا صغيرا اصطاده في وقت شبع ، لا يريد ان يلتهمه ولا يريد ان يطلقه ، يتسلى عليه كلما أفلته من بين مخالبه ، سرعان ما يعاوده .

لم يبق على كريم سوى بضعة اشهر ، وكان يمكن اطلاقه لعدة اعتبارات انسانية بل وسياسية ايضا ، فلسطينية وعربية ، من بينها ستة دول عربية حضرت الى قبر بن غوريون وقرأت الفاتحة على روحه غير الطاهرة .

كان يمكن السماح له بمعانقتها ساعة واحدة من اربعين سنة ، (345 ألف ساعة) ، كان يمكن السماح له مشاركته جنازتها ، ولكنه نفسه الموت الذي داهم “سهى” ابنة المناضلة خالدة جرار في سجنها ، فحرمها من القاء نظرة وداع أخيرة على فلذتها .

إننا يا موت ، ومئات الاسرى الذين فقدوا احبابهم وراء القضبان ، في موتنا نستلهم الحياة .