هآرتس : موت أبو عاقلة .. حدث سياسي وخسارة مهنية

حجم الخط

هآرتس  – بقلم: تسفي برئيل 

 

الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة ليست مجرد صحافية وجدت نفسها في مرمى النار بين قوات متخاصمة وتحولت إلى “ضرر عرضي”. الطريقة التي قتلت فيها والردود العربية والإسرائيلية التي صدرت على الفور والإدراك بأن قتلها قد يثير موجة عنف جديدة، والسرعة التي أعلن فيها رئيس الأركان عن تشكيل لجنة تحقيق والمطالبة بإجراء تحقيق دولي، كل ذلك يدل على أن الأمر يتعلق بحادث ذي أهمية سياسية أكثر بكثير من الكارثة التي نزلت على أبو عاقلة وعائلتها.

صحيح أنه لم يتبين بعد من الذي ضغط على الزناد وأطلق الرصاصة التي قتلتها، لكن ذنب إسرائيل التصق بها، ومطلوب منها تطهير سمعتها أو تحمل النتائج إذا ثبت بأنها المسؤولة. من هنا تأتي أهمية تسريع التحقيق وهوية المحققين. ومن نافل القول أن تحقيق إسرائيل وحده لن يكفي، وأنه من الضروري تشكيل لجنة تحقيق دولية تحظى بثقة الإسرائيليين والفلسطينيين والمراقبين الدوليين الذين يجلسون في البيت الأبيض وعواصم الدول العربية والدول الأوروبية.

تحقيقات إسرائيل، حتى لو قام بها قضاة وشخصيات عامة، فقدت ثقة المجتمع الدولي منذ زمن طويل، وبالأحرى الفلسطيني. وقد ساهمت في ذلك ثقافة الإهمال والاستخفاف والطمس والاخفاء طويلة الأمد، التي تميز تحقيقات في مئات الأحداث التي قتل فيها فلسطينيون بنار الجيش الإسرائيلي أو على أيدي المستوطنين. إذا كانت أبو عاقلة قتلت بنار الفلسطينيين، حسب ادعاء إسرائيل التي تأخر ردها لساعات حتى نشرت بيان أسف على موتها، فليس لدى إسرائيل ما تخاف منه من إجراء تحقيق دولي. وإذا وجد في التحقيق أن الجنود هم الذين أطلقوا النار عليها وعلى زميلها، فتلك فرصة للعمل مثلما في كل دولة سليمة. الاعتراف بالمسؤولية وتطهير الصفوف ودفع التعويضات وبالأساس القيام بخطوات مهمة، لا يقتصر على قتل الصحافيين، بل والأبرياء بشكل عام.

انضمت أبو عاقلة أمس إلى إحصائيات مرعبة لآلاف الصحافيين الذين قتلوا أثناء عملهم. وحسب بيانات الفيدرالية العالمية للصحافيين، وهي جسم يمثل 600 ألف صحافي، فإنه في العقود الثلاثة بين 1990 و2020 قتل أكثر من 2658 صحافياً، من بينهم 561 صحافياً في الشرق الأوسط. ومنذ العام 2020 انضم إلى هذه القائمة السوداء عشرات الصحافيين، منهم من قتل أثناء تغطية المعارك في العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، وبعضهم قتلوا على أيدي عملاء للأنظمة التي لم تتحمل توجيه الانتقادات لها. من بينهم يمكن إحصاء جمال خاشقجي، وهو السعودي الذي أثار قتله عاصفة دولية وأدى إلى قطيعة بين قيادة السعودية وزعماء العالم؛ ثم لقمان سليم اللبناني الذي أدى انتقاده اللاذع لـ”حزب الله” كما يبدو إلى قتله قبل سنة تقريباً. وجبران تويني وسمير قصير اللذان قتلا في 2005 بسبب انتقادهما اللاذع للنظام السوري و”حزب الله”.

لكن إضافة إلى لوحة الأهداف التي رسمت على ظهور صحافيين مختارين، فإن التنكيل بوسائل الإعلام والعاملين فيها في منطقة قتال وفي ساحة توتر سياسي، تحول إلى جزء من الاستراتيجية الحربية. صحافيون فلسطينيون وإسرائيليون وأجانب، يغطون النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، تحولوا إلى جزء لا يتجزأ من الحرب؛ لأنه تم تأطيرهم كمبعوثين ليس فقط لوسائل الإعلام التي تشغلهم، بل أيضاً للأطراف المتخاصمة اعتبر الصحافيون الفلسطينيون على مدى السنين أشخاصاً غير موثوق بهم لأنهم فلسطينيين. لذلك، يجب عدم الوثوق بهم في كل ما يتعلق بالمعلومات عما يحدث في “المناطق” [الضفة الغربية]. هذه المقاربة أعطت المتحدثين بلسان الجيش الإسرائيلي والشرطة و”الشاباك” حصرية شبه مطلقة في تشكيل المعلومات والرأي. وقد مرت سنوات إلى أن بدأت هذه المكانة تهتز، وصحافيون فلسطينيون، وعرب بشكل عام، حصلوا على الثقة المناسبة.

مسار تصادم

وقفت على رأس ثورة الثقة بوسائل الإعلام العربية قناة “الجزيرة” التي أقيمت في 1996 وبدأت في تقديم تقارير من كل عاصمة عربية ودولية، من خلال وضع كاميراتها في كل حدث مهم. عشرات الصحافيون التابعون لها اخترقوا أسوار الرقابة التي فرضتها الأنظمة العربية، وقاموا بدون خوف بانتقاد الفساد والعفن والإخفاقات التي ميزت هذه الأنظمة، وحصلوا في الوقت نفسه على ثقة الجمهور العربي، وحتى الدولي. في حروب أفغانستان والعراق، كانت “الجزيرة” هي الشبكة الوحيدة التي لم تكتف فقط بالإبلاغ عن تحركات الجيش، بل عرضت الأضرار والدمار والموت الذي تسببت به قوات التحالف. ودفعت الشبكة مقابل ذلك ثمناً باهظاً؛ ففي حرب الخليج الثانية هاجمت طائرة أمريكية الفندق الذي كان فيه طاقم القناة، وقُتل الصحافي طارق أيوب. لم يكن هذا “حادثاً مؤسفاً”، بل كانت “الجزيرة” هي الهدف. اسم الشبكة كان يسير أمامها إلى درجة أن شبكات أمريكية قامت بشراء أفلام قصيرة منها لإرفاقها بتقاريرها عن الحرب. منذ العام 2011 وعلى خلفية ثورة “الربيع العربي” قالت وزيرة الخارجية الأمريكية في حينه، هيلاري كلينتون، بأن “هناك شبكات تلفزة دولية، “الجزيرة” هي الأولى بينها، تغير رأي ومقاربة المدنيين”.

“صعدت الجزيرة على مسار التصادم مع أنظمة عربية وقامت بانتقاد الزعماء فيها. بذلك أثارت إحدى الأزمات الشديدة التي حدثت بين دول عربية وبين العائلة الحاكمة في قطر، التي هي صاحبة القناة. كانت ذروتها المقاطعة والحصار الاقتصادي الذي فرضته مصر والسعودية والإمارات على قطر. أحد الشروط الأساسية لرفع الحصار كان وقف بث الشبكة. “الجزيرة” هي شبكة مهنية، ولكن ليست موضوعية، مثلما هي كل وسائل الإعلام لا يمكنها أن تكون موضوعية إذا أرادت التأثير وتغيير وتشكيل الرأي العام. في إسرائيل تقسيم آخر لوسائل الإعلام الأجنبية، وهو ليس حسب مستوى موضوعيتها؛ فثمة مقولة ساخرة ومعروفة وهي أن موضوعية أي “وسيلة إعلام أو صحافي إنما يقاس وفق صالح إسرائيل أو ضدها”. “الجزيرة” رغم أنها الشبكة العربية الأولى التي استضافت على شاشتها صحافيين وخبراء وسياسيين إسرائيليين، تعتبر “مناهضة لإسرائيل” و”مؤيدة للفلسطينيين”. بناء على ذلك، كل الصحافيين والموظفين فيها مصنفين كـ “أعداء”.

شيرين أبو عاقلة “حظيت” أيضاً بهذه الصفة. تقاريرها الشجاعة والصادقة والموثوقة والمهنية التي استندت إلى عمل ميداني طويل الأمد وعلى تحقيقات معمقة وعلى معرفة واسعة للمجتمع الفلسطيني الذي ولدت فيه، منحتها مكانتها الرفيعة والصلاحية الإعلامية التي حولتها إلى صحافية لها قوة في العالم العربي. في الوقت نفسه، تحولت إلى العدو اللدود للمتحدثين بلسان الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي عندما دحضت تقاريرهم وادعاءاتهم. الأسف على موتها ليس شخصياً فقط، هذا خسارة مهنية مدوية لمن نجحت في وضع النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين والمجتمع الفلسطيني ومظاهر الاحتلال على المنصة الأمامية للرأي العام العربي والعالمي.