لجنة التحقيق يجب أن تكون محايدة مستقلة نزيهة ‏غير تابعة لأية جهة ذات مصلحة

المحامي شعبان.PNG
حجم الخط

بقلم:المحامي إبراهيم شعبان


ودعت فلسطين من أقصاها لأقصاها شهيدة الكلمة الحرة الصحفية شيرين ابو عاقلة وسلبت ‏حقها في الحياة حيث قضت وارتقت برصاص غادر وجهه أعداء الكلمة وخصوم الحقيقة ‏وأنصار الظلام. ولم تكن شيرين إلا واحدة من آلاف من المدنيين الفلسطينيين المسالمين، الذين ‏قضوا برصاص الجيش الإسرائيلي المحتل وقوات الأمن الإسرائيلية وزبانيته في سلسلة طويلة ‏بل طويلة جدا عبر أكثر من خمسة عقود من الإحتلال الكولونيالي الغاشم في سلسلة سلب ‏الفلسطينيين حقهم في الحياة.‏
وقد درجت سلطات الإحتلال الإسرائيلية بما فيها أجهزة إعلامها الصهيونية على التغاضي ‏والتستر عن أعمال القتل والجرح تجاه الفلسطينيين المدنيين، وكانت تردد باستمرار إسطوانتها ‏المشروخة التي تنفث سما بأن الحادثة " قيد التحقيق " أو أن " أحداثا خطيرة وقعت ولما ‏تعرضت حياة الجنود للخطر أطلقوا الرصاص دفاعا عن النفس "، أو أن " تحقيقا قد فتح ‏لمعرفة أسباب الواقعة " ، أو أن " الجيش يفحص الأوراق والفعل قيد الدرس " أو أن " ‏الشرطة ما زالت تحقق في الموضوع " أو أن " الجيش ما زال يجمع المعلومات " ، أو أن " ‏الجيش يرفض التعقيب على الحادث مع أنه ياسف لوقوع ضحايا " أو أن لجنة تحقيق قد شكلت ‏وسترفع خلاصته لوزير الأمن "، أو أن الجيش يولي الموضوع أهمية قصوى وقد بدأ التحقيق ‏‏". ولم يخرج ردة فعل الجيش الإسرائيلي عن هذه الكليشيهات في قضية قتل الصحفية الشهيدة ‏شيرين أبو عاقلة بل وقع في تناقضات عدة . ‏
وفي إطار ذر الرماد في العيون، ودفاعا عن المقولة المزعومة المكذوبة المشروخة بأن الجيش ‏الإسرائيلي جيش أخلاقي، وأن الفلسطينيين إرهابيون، وهم شعب مشاغب وشيطاني وعنيف، ‏ويعرض حياة الجنود الإسرائيليين الحضاريين للخطر، أمر رئيس الأركان الإسرائيلي بتشكيل ‏لجنة تحقيق إسرائيلية عسكرية للتحقيق في الحادث بعد أن كان قد صرح أنه من الصعوبة ‏بمكان معرفة الحقيقة في وقت كانت جهات متعددة تطلق الرصاص. ثم تراجع وشكل اللجنة ‏المزعومة في خطوة لامتصاص الضغط العالمي لمعرفة الحقيقة، ولنفي التهمة ما أمكن عن ‏وحدة الدبدبان الإسرائيلية التي كانت في المكان، ولا تبعد عن مسرح الجريمة سوى بضعة ‏عشرات الأمتار عن موقع الضحية وأطلقت كثيرا من الرصاص الحي.‏
هذه الخطوة الإسرائيلية بتشكيل لجنة تحقيق عسكرية لم يرحب بها الكثيرون وبخاصة منظمات ‏حقوق الإنسان المحايدة في العالم كأمنستي وبلا حدود. لكن بعض السياسيين الغربيين ‏المتصهينين أو ممن يعتقدون بسذاجة أن هناك عدالة إسرائيلية، أو ممن يودون إغلاق الملف ‏حرصا على إسرائيل، أو ممن لا يعيرون انتباها أو أهمية للدم الفلسطيني المستباح، لأنه من ‏شعب دوني وليس كالشعب الأوكراني أو الأوروبي، رأوا في هذا الإقتراح منفذا وخلاصا من ‏هذا المأزق الذي يهدد الرواية الإسرائيلية الدائمة طيلة خمسة عقود وليس هناك من يدحضها. ‏حتى قرارات المدعية السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فتيمة بن سودا، وتقرير القاضي الجنوب ‏أفريقي اليهودي الديانة جولدستون، وتقارير الأمم المتحدة للجنة فلسطين، ومنظمة أمنستي في ‏تقريرها الأخير بوصف دولة الإحتلال كدولة فصل عنصري، وقرار محكمة العدل الدولية ‏الإستشاري بشأن الجدار، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الخاصة ‏بالقضية الفلسطينية، وقرارات اليونسكو بشأن الأماكن المقدسة في القدس، ومواقف جيمي ‏كارتر ورتشارد فولك والأسقف ديزموند توتو ووليم شاباس وآخرها موقف بيتسيلم المنظمة ‏الإسرائيلية، بقيت حبرا على ورق ولم توضع قيد التنفيذ بسبب الرعاية الأوروبية الأمريكية ‏لطفلها الإسرائيلي المدلل. ولا نعلم كم زمنا وعدد من الشعب الفلسطيني سيقضي حتى يستفيق ‏الضمير العالمي مثلما استفاق لموضوع أوكرانيا.‏
‏ ويبدو أن رئيس الأركان الإسرائيلي يتجاهل عنصرا أساسيا وجوهريا وهو الحيادية في ‏عضوية لجان التحقيق، عن قصد وعمد لتضليل السامع والناظر والقارىء وخلط الأوراق. فمنذ ‏متى يحقق الجاني مع نفسه، وكيف يستقيم أن يحقق فاعل الجريمة مع نفسه، وكيف يصح أن ‏يكون الخصم حكما في ذات الوقت، وأن يكون الجلاد هو القاضي. أي تحقيق هذا، وأية نزاهة ، ‏وأية موضوعية يمكن أن ينتج مثل هذا التحقيق. إسمعوا لهذه الأضحوكة،عسكري إسرائيلي ‏يحقق مع عسكري إسرائيلي في قتل فلسطيني أو فلسطينية، صحفية مدنية أو صاحب عقار أو ‏متظاهر أو محتج أو متعبد أو معتكف أو عابر طريق أو مصلٍ أو كاتب أو مناضل أو مزارع . ‏ببساطة رئيس الأركان الإسرائيلي كان يفترض أن يرد نفسه عن تشكيل لجنة تحقيق لكنه ‏إمعانا في الضلال والتضليل يشكل لجنة تحقيق من ضباط إسرائيليين ليحققوا في جرائم ‏زملائهم في السلاح، وقد يكون المحققون العسكريون أنفسهم متورطون في جرائم ضد ‏الفلسطينيين عملا بميثاق جنيف الرابع وبروتوكوله الإضافي أو بموجب اتفاقية لاهاي الرابعة ‏أو بموجب ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية أو بموجب ميثاق الحقوق المدنية والسياسية ‏لعام 1966 أو بموجب ميثاق منع التعذيب لعام 1984. هذا أسلوب عفا عليه الزمن وانقضى ‏لأنه ببساطة شديدة يفتقد الحيادية ويزخر بتضارب المصالح. أضف أن العسكري مهما كانت ‏جنسيته ينفذ قاعدة شهير تقول " نفذ ثم ناقش ". والكل يعلم من قاصٍ ودانٍ أن النيابة العامة ‏العسكرية والمحاكم العسكرية الإسرائيلية تسير وتخطو على هذا النهج، فكم بالحري أن تسير ‏لجنة التحقيق المزعومة على هذا النهج السائد في العدالة الإسرائيلية.‏
وكيف للجنة يكون مرجعها وزير الأمن الإسرائيلي أن تكون مستقلة ونزيهة في توجهاتها وفي ‏توصياتها وهي مخلوقة من قبله وبإرادته ومن صنعه. وكيف للجنة أن تقرر الحقيقة وهي لا ‏تعترف باتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكوله والقانون الدولي الإنساني برمته كمرجع لحادثة ‏الإستشهاد، أم أن القانون العسكري الإسرائيلي للمحتل سيكون هو المرجع لكيفية إطلاق النار ‏غير المبرر والمبرر في آن واحد. كيف للجنة لا تؤمن بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم أن ‏تكون محايدة ونزيهة، بينما يؤمن أعضائها إيمانا جازما أن الفلسطينيين إرهابيون ‏مشاغبون مغتصبون. وكأن الحياد والنزاهة والإستقامة والموضوعية عناصر غير مطلوبة في ‏عضوية اللجنة بل يكفي الصفة الصهيونية اليهودية العسكرية حتى لا يصدر قرار من جسم ‏خارج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وهذا سر رفض إسرائيل المستمر والمزمن للجان التحقيق ‏الدولية فهي لا تثق إلا في عدالة لجانها المزعومة. لو كان رئيس الأركان الإسرائيلي يملك ذرة ‏واحدة من ذرات العدالة لطلب تحقيقا ولوافق على تحقيق تجريه جهات خارجية عن جيشه ليدرأ ‏عن نفسه تهمة تنازع المصالح وحب الذات عملا بمبدأ الرد. أضف أن جهات رسمية إسرائيلية ‏عديدة اعترفت بعجز الشرطة الإسرائيلية وعدم صلاحيتها للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية التي ‏اقترفت من قبل الجيش أو المستوطنين وإغلاق ملفاتها. فلماذا سيستفيق ضمير الجيش ‏الإسرائيلي المحتل فجأة فيما حدث مع شيرين.‏
يجب أن يوضع صلاحيات التحقيق في حادثة استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة في يد منظمة ‏دولية كالأمم المتحدة أو مجلس حقوق الإنسان، وليس في يد دولة أمريكية ولا أوروبية ولا في ‏يد الصليب الأحمر الدولي ولا في يد المحكمة الجنائية الدولية، فقد أثبت هؤلاء جميعا أنهم ‏متورطون في الجرائم الإسرائيلية بشكل أو بآخر، وليس لهم حضور البتة حتى في الدعوة ‏للتحقيق في جرائم إسرائيل العديدة التي سبقت مقتل شيرين منذ عشرات السنين. ويجب أن تقدم ‏الضمانات الكافية من قبل إسرائيل على طلبات هذه اللجنة التي لن ترى النور لممانعة إسرائيل ‏على قيامها. وهذا أفضل من قيام جسم مشوه منحاز مسبقا لفرضية الجيش الإسرائيلي.‏
حادثة استشهاد شيرين أبو عاقلة يجب أن يدعو منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة والدول ‏المحبة للسلام على دعوة الجيش الإسرائيلي وقواته الأمنية على اختلاف مسمياتها إلى تغيير ‏قواعد استعمال الرصاص الحي والقوة النارية في مجتمع مدني ووقف القواعد الحالية التي ‏تجيز التصفية الجسدية حتى لو كان الشخص عاجزا أو غير قادر . ويجب العودة لتعليمات الأمم ‏المتحدة عام 1990 الخاصة بإنفاذالقانون. ‏
تعددت الأسباب والموت واحد، فقد قامت القوات الإسرائيلية على مدى تاريخها بقتل مستمر ‏للشعب الفلسطيني وسلبت حقه في الحياة بوسائل مختلفة ومتعددة ، كالطلقات النارية كما حدث ‏مع شيرين، أو بغاز لمن لديه ضيق تنفس، أو رصاص مطاطي أو معدني ضد أطفال أبرياء ‏حيث شوهتهم واقتلعت عيونهم، او مصلين أو متظاهرين أو مياه عادمة أو نسف منازل على ‏ساكنيها، لكن هذا لم يشل ولن يشل إرادة الشعب الفلسطيني التواق إلى الحرية والإستقلال شاء ‏من شاء وأبى من أبى، والأمور بخواتيمها، وإن الله يمهل ولا يهمل ورحم الله شيرين أبو عاقلة ‏‏!!!‏