ودعت فلسطين من أقصاها لأقصاها شهيدة الكلمة الحرة الصحفية شيرين ابو عاقلة وسلبت حقها في الحياة حيث قضت وارتقت برصاص غادر وجهه أعداء الكلمة وخصوم الحقيقة وأنصار الظلام. ولم تكن شيرين إلا واحدة من آلاف من المدنيين الفلسطينيين المسالمين، الذين قضوا برصاص الجيش الإسرائيلي المحتل وقوات الأمن الإسرائيلية وزبانيته في سلسلة طويلة بل طويلة جدا عبر أكثر من خمسة عقود من الإحتلال الكولونيالي الغاشم في سلسلة سلب الفلسطينيين حقهم في الحياة.
وقد درجت سلطات الإحتلال الإسرائيلية بما فيها أجهزة إعلامها الصهيونية على التغاضي والتستر عن أعمال القتل والجرح تجاه الفلسطينيين المدنيين، وكانت تردد باستمرار إسطوانتها المشروخة التي تنفث سما بأن الحادثة " قيد التحقيق " أو أن " أحداثا خطيرة وقعت ولما تعرضت حياة الجنود للخطر أطلقوا الرصاص دفاعا عن النفس "، أو أن " تحقيقا قد فتح لمعرفة أسباب الواقعة " ، أو أن " الجيش يفحص الأوراق والفعل قيد الدرس " أو أن " الشرطة ما زالت تحقق في الموضوع " أو أن " الجيش ما زال يجمع المعلومات " ، أو أن " الجيش يرفض التعقيب على الحادث مع أنه ياسف لوقوع ضحايا " أو أن لجنة تحقيق قد شكلت وسترفع خلاصته لوزير الأمن "، أو أن الجيش يولي الموضوع أهمية قصوى وقد بدأ التحقيق ". ولم يخرج ردة فعل الجيش الإسرائيلي عن هذه الكليشيهات في قضية قتل الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة بل وقع في تناقضات عدة .
وفي إطار ذر الرماد في العيون، ودفاعا عن المقولة المزعومة المكذوبة المشروخة بأن الجيش الإسرائيلي جيش أخلاقي، وأن الفلسطينيين إرهابيون، وهم شعب مشاغب وشيطاني وعنيف، ويعرض حياة الجنود الإسرائيليين الحضاريين للخطر، أمر رئيس الأركان الإسرائيلي بتشكيل لجنة تحقيق إسرائيلية عسكرية للتحقيق في الحادث بعد أن كان قد صرح أنه من الصعوبة بمكان معرفة الحقيقة في وقت كانت جهات متعددة تطلق الرصاص. ثم تراجع وشكل اللجنة المزعومة في خطوة لامتصاص الضغط العالمي لمعرفة الحقيقة، ولنفي التهمة ما أمكن عن وحدة الدبدبان الإسرائيلية التي كانت في المكان، ولا تبعد عن مسرح الجريمة سوى بضعة عشرات الأمتار عن موقع الضحية وأطلقت كثيرا من الرصاص الحي.
هذه الخطوة الإسرائيلية بتشكيل لجنة تحقيق عسكرية لم يرحب بها الكثيرون وبخاصة منظمات حقوق الإنسان المحايدة في العالم كأمنستي وبلا حدود. لكن بعض السياسيين الغربيين المتصهينين أو ممن يعتقدون بسذاجة أن هناك عدالة إسرائيلية، أو ممن يودون إغلاق الملف حرصا على إسرائيل، أو ممن لا يعيرون انتباها أو أهمية للدم الفلسطيني المستباح، لأنه من شعب دوني وليس كالشعب الأوكراني أو الأوروبي، رأوا في هذا الإقتراح منفذا وخلاصا من هذا المأزق الذي يهدد الرواية الإسرائيلية الدائمة طيلة خمسة عقود وليس هناك من يدحضها. حتى قرارات المدعية السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فتيمة بن سودا، وتقرير القاضي الجنوب أفريقي اليهودي الديانة جولدستون، وتقارير الأمم المتحدة للجنة فلسطين، ومنظمة أمنستي في تقريرها الأخير بوصف دولة الإحتلال كدولة فصل عنصري، وقرار محكمة العدل الدولية الإستشاري بشأن الجدار، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الخاصة بالقضية الفلسطينية، وقرارات اليونسكو بشأن الأماكن المقدسة في القدس، ومواقف جيمي كارتر ورتشارد فولك والأسقف ديزموند توتو ووليم شاباس وآخرها موقف بيتسيلم المنظمة الإسرائيلية، بقيت حبرا على ورق ولم توضع قيد التنفيذ بسبب الرعاية الأوروبية الأمريكية لطفلها الإسرائيلي المدلل. ولا نعلم كم زمنا وعدد من الشعب الفلسطيني سيقضي حتى يستفيق الضمير العالمي مثلما استفاق لموضوع أوكرانيا.
ويبدو أن رئيس الأركان الإسرائيلي يتجاهل عنصرا أساسيا وجوهريا وهو الحيادية في عضوية لجان التحقيق، عن قصد وعمد لتضليل السامع والناظر والقارىء وخلط الأوراق. فمنذ متى يحقق الجاني مع نفسه، وكيف يستقيم أن يحقق فاعل الجريمة مع نفسه، وكيف يصح أن يكون الخصم حكما في ذات الوقت، وأن يكون الجلاد هو القاضي. أي تحقيق هذا، وأية نزاهة ، وأية موضوعية يمكن أن ينتج مثل هذا التحقيق. إسمعوا لهذه الأضحوكة،عسكري إسرائيلي يحقق مع عسكري إسرائيلي في قتل فلسطيني أو فلسطينية، صحفية مدنية أو صاحب عقار أو متظاهر أو محتج أو متعبد أو معتكف أو عابر طريق أو مصلٍ أو كاتب أو مناضل أو مزارع . ببساطة رئيس الأركان الإسرائيلي كان يفترض أن يرد نفسه عن تشكيل لجنة تحقيق لكنه إمعانا في الضلال والتضليل يشكل لجنة تحقيق من ضباط إسرائيليين ليحققوا في جرائم زملائهم في السلاح، وقد يكون المحققون العسكريون أنفسهم متورطون في جرائم ضد الفلسطينيين عملا بميثاق جنيف الرابع وبروتوكوله الإضافي أو بموجب اتفاقية لاهاي الرابعة أو بموجب ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية أو بموجب ميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 أو بموجب ميثاق منع التعذيب لعام 1984. هذا أسلوب عفا عليه الزمن وانقضى لأنه ببساطة شديدة يفتقد الحيادية ويزخر بتضارب المصالح. أضف أن العسكري مهما كانت جنسيته ينفذ قاعدة شهير تقول " نفذ ثم ناقش ". والكل يعلم من قاصٍ ودانٍ أن النيابة العامة العسكرية والمحاكم العسكرية الإسرائيلية تسير وتخطو على هذا النهج، فكم بالحري أن تسير لجنة التحقيق المزعومة على هذا النهج السائد في العدالة الإسرائيلية.
وكيف للجنة يكون مرجعها وزير الأمن الإسرائيلي أن تكون مستقلة ونزيهة في توجهاتها وفي توصياتها وهي مخلوقة من قبله وبإرادته ومن صنعه. وكيف للجنة أن تقرر الحقيقة وهي لا تعترف باتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكوله والقانون الدولي الإنساني برمته كمرجع لحادثة الإستشهاد، أم أن القانون العسكري الإسرائيلي للمحتل سيكون هو المرجع لكيفية إطلاق النار غير المبرر والمبرر في آن واحد. كيف للجنة لا تؤمن بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم أن تكون محايدة ونزيهة، بينما يؤمن أعضائها إيمانا جازما أن الفلسطينيين إرهابيون مشاغبون مغتصبون. وكأن الحياد والنزاهة والإستقامة والموضوعية عناصر غير مطلوبة في عضوية اللجنة بل يكفي الصفة الصهيونية اليهودية العسكرية حتى لا يصدر قرار من جسم خارج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وهذا سر رفض إسرائيل المستمر والمزمن للجان التحقيق الدولية فهي لا تثق إلا في عدالة لجانها المزعومة. لو كان رئيس الأركان الإسرائيلي يملك ذرة واحدة من ذرات العدالة لطلب تحقيقا ولوافق على تحقيق تجريه جهات خارجية عن جيشه ليدرأ عن نفسه تهمة تنازع المصالح وحب الذات عملا بمبدأ الرد. أضف أن جهات رسمية إسرائيلية عديدة اعترفت بعجز الشرطة الإسرائيلية وعدم صلاحيتها للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية التي اقترفت من قبل الجيش أو المستوطنين وإغلاق ملفاتها. فلماذا سيستفيق ضمير الجيش الإسرائيلي المحتل فجأة فيما حدث مع شيرين.
يجب أن يوضع صلاحيات التحقيق في حادثة استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة في يد منظمة دولية كالأمم المتحدة أو مجلس حقوق الإنسان، وليس في يد دولة أمريكية ولا أوروبية ولا في يد الصليب الأحمر الدولي ولا في يد المحكمة الجنائية الدولية، فقد أثبت هؤلاء جميعا أنهم متورطون في الجرائم الإسرائيلية بشكل أو بآخر، وليس لهم حضور البتة حتى في الدعوة للتحقيق في جرائم إسرائيل العديدة التي سبقت مقتل شيرين منذ عشرات السنين. ويجب أن تقدم الضمانات الكافية من قبل إسرائيل على طلبات هذه اللجنة التي لن ترى النور لممانعة إسرائيل على قيامها. وهذا أفضل من قيام جسم مشوه منحاز مسبقا لفرضية الجيش الإسرائيلي.
حادثة استشهاد شيرين أبو عاقلة يجب أن يدعو منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة والدول المحبة للسلام على دعوة الجيش الإسرائيلي وقواته الأمنية على اختلاف مسمياتها إلى تغيير قواعد استعمال الرصاص الحي والقوة النارية في مجتمع مدني ووقف القواعد الحالية التي تجيز التصفية الجسدية حتى لو كان الشخص عاجزا أو غير قادر . ويجب العودة لتعليمات الأمم المتحدة عام 1990 الخاصة بإنفاذالقانون.
تعددت الأسباب والموت واحد، فقد قامت القوات الإسرائيلية على مدى تاريخها بقتل مستمر للشعب الفلسطيني وسلبت حقه في الحياة بوسائل مختلفة ومتعددة ، كالطلقات النارية كما حدث مع شيرين، أو بغاز لمن لديه ضيق تنفس، أو رصاص مطاطي أو معدني ضد أطفال أبرياء حيث شوهتهم واقتلعت عيونهم، او مصلين أو متظاهرين أو مياه عادمة أو نسف منازل على ساكنيها، لكن هذا لم يشل ولن يشل إرادة الشعب الفلسطيني التواق إلى الحرية والإستقلال شاء من شاء وأبى من أبى، والأمور بخواتيمها، وإن الله يمهل ولا يهمل ورحم الله شيرين أبو عاقلة !!!