عربيةٌ فلسطينيةٌ هي شيرين أبو عاقلة، مقاومةٌ كسائر أبناء شعبها، ومرابطةٌ كأهلها على تراب وطنها، لا تميز نفسها عنهم، ولا تتعالى عليهم بجنسيتها الأمريكية ونجوميتها الإعلامية، ولا تنأى بنفسها عن قضيتهم، ولا تتخلى عن دورها بينهم.
تشاركهم الهموم والأحزان، وتشاطرهم الآلام والأوجاع، وتكابد وإياهم ويلات الاحتلال، وتعاني مثلهم من سياساته العنصرية وإجراءاته القمعية، ولا تشعر بأن مهنتها الصحافية تمنحها الحصانة، وتحميها من غدر الاحتلال وحقده، ولا تعتقد أن سترتها الصحفية وشارتها المميزة تحول دون استهدافها، وتمنع الاحتلال من قتلها.
وقد هيأت نفسها لمثل هذا اليوم واستعدت له، ودأبت في منشوراتها الخاصة وأحاديثها الشخصية تذكر أنها قريبة من الشهادة، وأنه قد يطالها ما طال أبناء شعبها، وقد كان ما توقعته، ووقع ما كانت تكتب عنه وتواجهه ولا تهرب منه.
إلا أن شهادة الإعلامية الفلسطينية المتألقة شيرين أبو عاقلة، التي استحقت بجدارة لقب "أيقونة الإعلام الفلسطيني المقاوم"، لم تكن شهادة عاديةً ولا تصفيةً عابرةً، بل غدت جريمة اغتيالها حرباً جديدةً ومعركةً كبرى، حقق فيها الفلسطينيون على العدو الإسرائيلي نصراً عزيزاً وفتحاً كبيراً، ولو أنه جاء بالدم القاني الطاهر، وبخسارةٍ كبيرةٍ لقامةٍ إعلاميةٍ وطنيةٍ عريقةٍ، صادقة اللهجة قوية العبارة، جرئية الجنان بليغة اللسان، واثقة الخطى سباقة إلى الواجب، تؤمن برسالتها وتضحي من أجل قضيتها.
دم شيرين المهراق على أرض الوطن فلسطين، قريباً من أرض البطولة والتحدي، وعلى مداخل مخيم الصمود والمواجهة، مخيم جنين الذي احتفى بشهادتها، ورفع جثمانها فوق الرؤوس وساماً، وطاف به رجاله في أرجائه تيهاً وفخاراً، وأقسموا وهي على أكتاف المقاومين عزيزةً، أن يواصلوا المسيرة، وأن يستكملوا المعركة، وأن يثبتوا أمام جنود الاحتلال ثباتهم أمامه أول مرةٍ، وأن يكبدوه خسائر أكبر، ويجبروه على دفع ضريبةٍ أكثر وجعاً وأشد ألماً، وهي التي هيأت نفسها للمشاركة فيها إعلامياً، وقد خطت صبيحة استشهادها كلماتها الأخيرة، داعيةً كل من أراد العزة والكرامة، وكل من يتطلع إلى النصر والمواجهة،أن ييمم وجه شطر جنين.
شيرين أبو عاقلة فضحت الاحتلال الإسرائيلي المفضوح أصلاً وعرته أكثر، وكشف أوراقه السوداء وسياساته الحمقاء أمام المجتمع الدولي كله، الذي لا تكاد توجد فيه دولةٌ واحدة لم تدن الجريمة وتستنكرها، فقد شجبت جريمةَ اغتيالها كبرى العواصم الدولية، وأصدرت أغلبها بياناتِ إدانةٍ لم تخلُ من عبارات الغضب ومفردات الإدانة شديدة اللهجة، وهو أمرٌ لم نعتد عليه في فلسطين، ولم نشهد مثله من قبل، ولكن دماء شيرين التي روت أرض فلسطين وجنين، كان لها من الخير والبركة ما يعم الوطن ويفيض على الشعب.
أجبرت شيرين المتلحفة بالعلم الفلسطيني، والمتزينة بثوبٍ مقدسيٍ مطرزٍ موشىً قشيب، العدو الإسرائيلي وهي جثةً ترقد في أحد مستشفيات مدينة القدس، على أن يخضع لقداسها وأن يتراجع أمام طقوس دفنها، فُرُفعَ العلم الفلسطيني رغم أنفه خفاقاً في سماء القدس، ورفرف فوق السواري والبيوت، وبقبضات الرجال وأيدي النساء، رغم محاولاته ثني الفلسطينيين ومنعهم من رفع علم وطنهم والتلويح به، إلا أن دم شيرين قهره وجثمانها هزمه، وأصر أبناء شعبها على الوفاء لها والانتصار لدمها وعدم خذلانها، فأعادوا علم فلسطين بجثمانها إلى سماء عاصمتها القدس.
كما أجبرته شيرين على أن تجري مراسم التشييع والدفن في مدينة القدس، مسقط رأسها وعاصمة بلادها، وأن تدفن في ثراها إلى جانب أبيها، وأن يشارك رفاقها وزملاؤها وأبناء شعبها في مراسم التشييع والدفن.
وأعلن أكثر من ثمانية عشر سفيراً أوروبياً عن نيتهم المشاركة في مراسم الدفن، الأمر الذي أغاظ سلطات الاحتلال وكبلهم، ومنعهم من استخدام القوة لتفريق المشيعين وإفساد مراسم التشييع والعزاء.
ولعل إعلان السفارة الأمريكية في القدس عن إمكانية مشاركة مندوبين عنها في التشييع، يعتبر سابقةً في تاريخها، وخطوةً قد يكون لها ما بعدها، خاصةً أن الإدارة الأمريكية ودول أوروبا يطالبون بإجراء تحقيق مسؤولٍ لكشف ملابسات اغتيالها.
نجحت شيرين أبو عاقلة في جمع كلمة الفلسطينيين وتوحيد صفوفهم، مسلمين ومسيحيين، فكما قرعت كنائس القدس وفلسطين أجراسها، فقد رفع الآذان وتهليلات الله أكبر في المسجد الأقصى ومساجد القدس وفلسطين، فيما بدا أنه أجمل تلاحمٍ وأوضح رسالةً إلى العدو الإسرائيلي وإلى العالم كله من بعده.
أثبتت شيرين بدمها أن شعبَ فلسطين شعبٌ واحدٌ، يجمعهم همٌ واحدٌ ومصيبةٌ واحدةً، وأنهم جميعاً يداً واحدة في مواجهة الاحتلال والتصدي له، وها هم جميعاً مسلمين ومسيحيين في شوارع القدس يتحدون جيش الاحتلال، ويتصدون لإجراءاته التي تحول دون مشاركتهم في وداع ابنتهم والسلام عليها، وإلقاء النظرة الأخيرة عليها.
شهادة شيرين أبو عاقلة موجعة مؤلمة قاسية، تدمي القلوب وتفجعها، وتفطر الأكباد وتفتتها، ولكن عزاءنا في شهادتها أنها قاتلت بدمها، وقاومت بجثمانها، وجعلت من شهادتها فتحاً قريباً ونصراً لشعبها وقضيتها مبيناً، ولا أظن أن الأيام القادمة ستطوي الجريمة، وستنسي الفلسطينيين ألمهم، بل إن مواراة شيرين الثرى سيبعث في شعبناً أملاً جديداً وعزماً كبيراً، أننا بالدم نقاوم وبه ننتصر، وأن عدونا أمامه ضعيف وبه ينكسر، وكما كانت شهادتها لشعبها نصراً ولقضيتها فرضاً، فإن جنازتها ستكون على العدو لعنةً، ودفنها سيكون لكيانه زوالاً ودفناً.