قرابة الساعة السادسة وأربعين دقيقة من صباح الأربعاء 11/5/2022، قتل قناص إسرائيلي الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة وأصاب زميلها علي سمودي. كانت شيرين ضمن مجموعة من الصحافيين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مقبرة الشهداء في مخيم جنين لتغطية اقتحام جيش الاحتلال المنطقة، ومحاصرة أحد البيوت على طرف المخيم، بيت حجري غير مكتمل محاط بأشجار غير مشذبة. تحت جذع إحدى هذه الأشجار استلقت شيرين، كانت تفصلنا شجرة، تقول زميلتها الناجية شذى حنايشة، "كنت أحاول أن أمد يدي لأرى وجهها ولكنهم كانوا يطلقون النار"، تضيف شذى.
وبينما كانت صور الجريمة تغطي وسائل الإعلام والتواصل في العالم، وموجات مذهلة من الحب تتدفق من البيوت ومداخل القرى وأزقة المخيمات، ومن أيدي المجاميع التي وقفت تحت الشمس على طول الطريق من نابلس إلى رام الله، ثم من رام الله إلى القدس عبر قلنديا، وصولاً إلى فلسطين العميقة والأسرى الذين لا يستطيعون الوصول إلى الطرق، وقفوا خلف جدران معتقلاتهم تكريماً لابنتهم وشقيقتهم، وبينما كانت رشيدة طليب الفلسطينية تحبس دموعها وهي تصعد منصة الكونغرس الأميركي وتدعو الأعضاء إلى الوقوف دقيقة حداد على روح شيرين أبو عاقلة، كانت إسرائيل تتخبط في نسخ بائسة من روايتها التقليدية، وحتى قبل منتصف الليل كان هناك أربع نسخ لا رابط بينها:
رواية الجيش التي تحدثت عن "تحييد" إرهابيين في جنين، تبين في ما بعد أن المقصودين شيرين وعلي، ثم رواية الرصاصة الفلسطينية التي أصابت شيرين، رواية وزارة الخارجية التي يشرف عليها الصحافي السابق ووزير خارجية بينيت وشريكه في الائتلاف لابيد، الذي حاول أن يتذاكى عبر بث فيديو لمقاتلين فلسطينيين يطلقون النار في أزقة مخيم جنين في محاولة لتعويم الجريمة، رواية "كوخافي" رئيس أركان جيش الاحتلال الذي حاول بدوره أن يعوّم الجريمة عبر حديث عن "منطقة قتال" يصعب تحديد مصدر إطلاق النار فيها، ثم رواية صحيفة "هآرتس" المنقولة عن تحقيق القيادة الوسطى في جيش الاحتلال المسؤولة المباشرة عن الاقتحامات في الضفة الغربية، والتي بالغت في التفاصيل التقنية.
اسم الوحدة "دوفدوفان" وهي وحدة مستعربين أشبه بعصابة من الفاشيين ارتكبت العديد من الجرائم وعمليات الإعدام الميداني، والمسافة 100 إلى 150 متراً، ونوع البندقية "م 16" وعيار الرصاصة "5،6"، رغم أن "الرصاصة" المتنازع عليها ليست في حوزتها، مع إشارة تتحدث عن أن الوحدة أطلقت بضع رصاصات نحو الشمال حيث الفريق الصحافي الذي يضم شيرين، كل هذه التقنيات التي أغرقت التحقيق جاءت لتخدم فكرة أنهم أطلقوا رصاصات نحو الشمال، ما يشي بأن ثمة خطأً غير مقصود ووليد لحظته قد جرى، وليس عملية إعدام لا تختلف عن عمليات القتل الجارية على الحواجز لشبان ونساء ومارة ومتسوقين بحجة الاشتباه بعمليات طعن أو دهس.
تروي المؤسسة الإسرائيلية رواية قديمة مستهلكة بسبب الاستخدام وضيق المخيلة الفاشية التي تتحكم فيها، بينما ثمة عالم جديد يتقدم، عالم يصعب التحايل عليه. وتقف رواياتها مصدومة ومشوشة أمام الحب الذي رافق جنازة شيرين أبو عاقلة على مسافة 140 كم، من مخيم جنين إلى مخيم قلنديا ثم المستشفى الفرنسي في القدس بانتظار وصولها إلى كنيسة الروم الكاثوليك، رواية تبدو بلهاء وهي تحدق في الأيادي التي تسلم جسد شيرين من مخيم إلى مخيم ومن قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة.
ولكن الرواية الحقيقية هي تلك التي أوردها الفاشي بنغفير الذي حيا الجنود على إنجازهم، وطلب منهم مواصلة العمل من دون الالتفات إلى الصحافيين.
بنغفير هو التجلي المخلص لروح الفاشية الإسرائيلية، الفاشية التي تتراكم منذ ما قبل صناعة الدولة في المؤسسة الحاكمة وفي الشارع، وهو صاحب الرواية الحقيقية، فاشية أصابها الضجر من قناع الليبرالية الذي تشرح عبره منظومة الأبارتهيد الإسرائيلية منذ عقود الدوافع الفلسطينية لجرائم الاحتلال، فاشية ضجرة لم تعد ترغب في من يتحدث باسمها بعدما تفسخ الغلاف الرقيق الذي كان يخفيها.
لم ألتق شيرين منذ وقت طويل، ولكنني كنت صباح الأربعاء في الطريق إلى مكتب "الجزيرة" حيث انتظرناها قبل أن يتأجل وصولها إلى المساء. عدت إلى سنوات التسعينات من القرن الماضي، حين كانت تتحرك ضمن مجموعة من الشابات الموهوبات، شكّلن، إضافة إليها، في تلك الفترة، ظاهرة مضيئة في العمل الإعلامي الفلسطيني، مثل شروق الأسعد وجيفارا البديري ودانييلا خلف، كن يتحركن مثل غيمة من الشغف والشجاعة، وكن يطلقن الثقة مثل طيور مدربة.
كان عنوان هذه المقالة "نامت تحت شجرة"، ولكن تغريدة سامر أبو هواش أخذت العنوان، تغريدة سامر المتقشفة العميقة التي تركت النص في بياضه أخذت العنوان وأعادته.