أمضت الشهيدة شيرين أبو عاقلة ربع قرن من عملها كصحفية متميزة، وهي تحاول أن تضع فلسطين في عين الحدث، وتلفت نظر العالم إلى أن ما يحصل في فلسطين هو سلسلة متصلة من الجرائم. وإن كان هذا العالم قد وصل (ولو جزئيا) إلى الإقرار بهذه الجرائم بصفتها مرتبطة بنظام استعماري-استيطاني نتج عنه نظام فصل عنصري، فإن محتوى ذلك العدد اللامتناهي من تقارير الميدان والعمل الصحفي الشجاع والدؤوب الذي قدمته شيرين أبو عاقلة كان قد كشف عن جزء غير يسير من هذه الجرائم. والمفارقة التي لازمت الأيام القليلة التي مضت على رحيلها المفجع والصادم، هي أنها بهذا الرحيل قد استقطبت جل وسائل الإعلام والمؤسسات الحقوقية حول العالم وسياسييه، وقادته لتصبح جريمة قتل شيرين، ومعها فلسطين في بؤرة الاهتمام العالمي بالرغم من فداحة ومفصلية أحداث أخرى يمر بها العالم بدءا من حرب أوكرانيا، وليس انتهاء بالملف النووي الإيراني. وربما تطل علينا شيرين أبو عاقلة من التراب اليوم لتقول: فعلتها باسم كل الفلسطينيين.
جريمة قتل شيرين وما رافقها وتبعها من تداعيات، وبخاصة الوداع الأسطوري الذي حظيت به في فلسطين، وفي مدينتها القدس، يحمل في طياته أكثر من معنى ومدلول. ولأن الأحداث بمثل هذه الغزارة، وردود الأفعال لم تتوقف ولا يبدو بأنها ستتوقف في قادم الأيام، سأحاول أن أقرأ المسألة من زاوية صراع الوطنية الفلسطينية مع اسرائيل ومشايعيها في العالم الغربي باعتبارها (اي أسرائيل) دولة استعماري-الاستيطاني، وتمييز عنصري.
شكل وداع الجماهير الفلسطينية للشهيدة شيرين أبو عاقلة علامة فارقة في أعادة انبعاث الوطنية الفلسطينية بأكثر صورها جذرية واستيعابا وشمولا. وهو ما شكل استمرارا لحالة تعاظم سياسات المقاومة والممانعة والتمرد الجمعي التي تأسست منذ أيار من العام الماضي بانتفاضة الوحدة بديلا لسياسات الاستجداء، والتي تعمقت في الأشهر الأخيرة بفعل تعاظم حالة الصدام على نطاق متسع مع الة القمع والقتل الاسرائيلية. ولعل المشترك بين كل هذه الأحداث هو نبذ أشكال الطائفية السياسية، وعمليات الإقصاء، والخيارات السياسية العاجزة، ومعها التقسيمات التي فرضتها اسرائيل على الفلسطينيين الذين يعيشون على أرض وطنهم. في هذا السياق كان للدلالات الرمزية والسياسية والمعنوية لساعات الوداع الأخير للشهيدة في مدينة القدس معانيه الخاصة: فرفع الأعلام الفلسطينية والهتافات الوطنية في تحد جماعي لأوامر سلطات القمع الاسرائيلي، ورمزية المكان والحشود المهيبة التي رافقت تشييع النعش؛ كلها تعبيرات لا يمكن المرور عنها مر الكرام، وعلى حد تعبير صحيفة لوموند أظهر التشييع أن مدينة القدس مدينة فلسطينية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهو ما شاهده وشهد عليه قناصل وسفراء الدول الغربية الذين حضروا التشييع.
شاهد قناصل وسفراء الدول الأوروبية، والولايات المتحدة وعن قرب شديد الوحشية منقطعة النظير، والاستخفاف الفاضح بكل القيم بالاعتداء على المشيعين، بما فيهم حملة النعش، والذي تناقلته وسائل الإعلام العالمي على نطاق واسع. تعكس هذه الصورة الإدراك الاسرائيلي العميق بأن كل ما يمكن أن تقوم به بحق الفلسطينيين سيجد في نهاية المطاف تبريرا من نوع ما، وسيمر دون محاسبة. شكل تشييع جثمان شيرين أبو عاقلة علامة فارقة من حيث المدى الذي يمكن أن تذهب إليه اسرائيل لقمع أي مظهر للوطنية الفلسطينية وبخاصة في مدينة القدس. وكان على سفراء وقناصل العالم الغربي أن يظهروا بمظهر المنافق بما أن حكوماتهم لا زالت تتعامل مع انتهاكات اسرائيل الوقحة لحقوق الفلسطينيين المشروعة بمزيج من الجبن والتواطؤ والتبرير. وبات من الواضح بأن عديد الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة باتت تتشارك مع اسرائيل في الخوف المتزايد من تاكل شرعية اسرائيل باعتبارها كيان استعماري-استيطاني، ونظام فصل عنصري. إذ كيف يمكن تفسير الإدانة اللفظية (وبعبارات مخففة) لممارسات هذه الدولة المارقة، وبذات الوقت فرض كل أشكال القيود على حرية التعبير المتعلق بنقد اسرائيل وتعريتها، وعلى النشاطات المؤيدة للفلسطينيين في أوروبا وأمريكا. فخلال الأشهر القليلة المنصرمة وحتى اليوم أقدمت ألمانيا (بما فيها محطة دويتش فيلله)، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على سلسلة من الإجراءات التي تمنع مظاهر التضامن مع الفلسطينيين بحجة "العداء للسامية".
إن هذه الدول تكون بذلك قد تبنت رسميا ذلك التعريف المغرض والمسيس لظاهرة العداء للسامية كما صاغه حلف ذكرى الهولوكوست International Holocaust Remembrance Alliance والذي يساوي بين العداء لاسرائيل وبين العداء للسامية. وبقدر ما يعكس هذا الموقف قبولا صريحا بالمعايير الصهيونية لتعريف اللاسامية فإنه بذات الوقت وبدرجة أكبر يهدف إلى قطع الطريق على تعاظم حركة الشعوب والمنظمات ووسائل الإعلام في هذه الدول –بما فيها الولايات المتحدة-والتي باتت تتعامل مع اسرائيل أكثر فأكثر وبحق باعتبارها دولة فصل عنصري واستعمار-استيطاني. أتت جريمة قتل شيرين أبو عاقلة على خلفية وفي سياق الحرب المفتوحة التي تشنها اسرائيل ضد الفلسطينيين وبخاصة في جنين لتقدم دليلا صارخا وصادما على المدى الذي بلغته اسرائيل في عنصريتها وتصرفها كدولة فوق القانون. وأعطت الجريمة، وما أعقبها من همجية وصلف في الاعتداء على المشيعين، للتحولات المذكورة (بخاصة على خلفية التقارير الحقوقية من أمنستي، وهيومن راتس ووتش) زخما متزايدا ينذر بنزع الشرعية عن هذا الكيان، ولتقدم للفلسطينيين فرصة كبرى لإبراز مظلوميتهم عبر التمسك بوطنيتهم التي ظهرت بأكثر التعابير جرأة وتماسكا في مواكب تشييع فقيدة فلسطين. وليس هناك أمر أكثر فضائحية ونفاقا من انشغال دول الاتحاد الأوروبي بفرض الرقابة على المناهج التعليمية الفلسطينية، وممارستها لدور "مقص الرقيب" خلال اجتماعات رئيس الوزراء الفلسطيني بقيادة الاتحاد الأوروبي والتي تزامنت مع جريمة قتل أبو عاقلة وتشييعها لمثواها الأخير. بهذا المعنى فإن ما جرى خلال التشييع، وما أعقبه من أحداث في مدينة القدس يشكل تحديا وطنيا شاملا لمحاولات تدجين الفلسطينيين وإجبارهم على التعايش مع ما يمارس بحقهم من تمييز ممنهج، وقتل بدون تمييز، وقبول اسرائيل كدولة تفوق أثني-ديني يهودي.
تقدم اسرائيل للعالم الغربي نفسها بوصفها ملاذ اليهود الامن وجزء لا يتجزأ من العالم الغربي الأبيض والاستعماري، وتصوغ متطلبات بقائها في سياق ما تسميه "التهديد الوجودي" معرفا بالمخاطر الديمغرافية، والسياسية، والأمنية. من هذه الزاوية فإن ما شهدته فلسطين، ولا تزال، من مظاهر الوطنية التي رافقت الاحتجاجات على قتل شيرين أبو عاقلة، وتشييعها الاستثنائي يشكل ضربة في الصميم لهذا التعريف العدواني والزائف للتهديد الوجودي، والذي استدعى إمعان اسرائيل في القتل والقمع بالرغم من ردود الأفعال على كل المستويات وكأن لسان حالها يقول: "ما دمنا نتمتع بمثل هذه الحصانة في أوروبا والغرب، فلا يوجد ما يمنع قتل ألف شيرين أبو عاقلة، وتبييض الجريمة"، لمنع إمكانية نهوض الوطنية الفلسطينية وتعاظم مناصرتها حول العالم.