(1) المملكة الصغيرة !
العلاقة بين حركة حماس وقطاع غزة أشبه بالتوأمة,أو أشبه بالمتلازمة التي لا فكاك منها !!
علاقة ميلاد ونشأة ..تاريخ وقيادة .. مسيرة تحد ومواجهة..ومن ثم علاقة حكم وسلطان !!
ولان حماس لم تمارس هذا القدر من القوة التنظيمية وسلطان الحكم ,حتى في ظل حكومتها العاشرة, في الضفة الغربية, فان هذا جعل من غزة مركز قوتها وزخمها.
شكلت غزة لحماس-بعد احداث يونيو 2007- ما يشبه (عالمها الكبير) أو (مملكتها الصغيرة ) التي تستطيع أن تمارس فيها نشاطها وحريتها بدون قيود , وهو الامر الذي انعكس بقوة على توجهاتها وقراراتها.
لقد فرضت حماس نفسها على كل تفاصيل الحياة في غزة كونها الحاكم الاوحد, ولم تنجح في استقطاب اي من الاطر والمؤسسات الاخرى الى جانبها , ومن ثم هيأت نفسها لواقع مختلف بعد أن تيقنت ان الرئيس ابو مازن غير جاد في المصالحة وانه تارك غزة وراء ظهره.
لقد قنعت حماس بأن غزة قد (تحررت) ,وانها أضحت خارج نطاق الحسابات الاقليمية والدولية ,رغم احاطة الاحتلال بها من كل جانب وتحكمه في البر والبحر والجو, ورغم خضوعها لتأثيرات الاطراف المجاورة .
حكمت غزة لفترة تقارب الثماني سنوات ,كانت سنوات صعبة وقاسية , حملت فيها الكثير من المعاناة التحديات والحروب والحصار, وفي نفس الوقت حولتها الى رمز من رموز المقاومة والصمود وتحدي الحصار.
حاربت وقاتلت على جبهات متعددة : خاضت معركة الحصار في وجه اطراف كثيرة , والحرب العسكرية المباشرة مع الاحتلال , ثم معركتها السياسية المركبة مع حركة فتح .
هذه المعارك أرهقت حماس ونالت من لحمها ,غير أنها بقيت صامدة واقفة على قدميها!
لقد مثلت غزة لحماس (القلعة) الحصينة التي تواجه وتتحدى بها اسرائيل , و(مركز القوة) التي تقابل بها نفوذ سلطة رام الله , و(الورقة) التي تستطيع ان ترفعها في وجه المعادلات السياسية في المنطقة .
ان حماس يجب أن تدرك بانه رغم هذه (الميزات ) الثلاث , فانه لا يضمن لها الخروج عن الكثير من السياسات العربية والاقليمية التي تستند الى موازين قوى دولية ,وترى في حماس خطرا يجب محاصرته , كما أنه لا يضمن لها استقرار الحالة الفلسطينية لصالحها وخروجها من دائرة الخلاف والصراع المحتدم.
ان قوة حماس العسكرية وتعاظم وجودها في غزة ربما حجب عنها التفكير في ان القوة السياسية لها من التأثير والحضور ما يمكن ان يوازن أو يفوق القوة العسكرية , فكيف لو اجتمعت كلاهما لدى الحركة؟ .
المشكلة ان حماس لم تستطع صياغة وبلورة قوة سياسية –الى جانب قوتها العسكرية – كي تستطيع ان تنافس/ تفرض نفسها كلاعب محترف في تسجيل الاهداف السياسية,وتركت المجال لحركة فتح والرئيس ابو مازن ان يمارسوا هذا الدور بحرية ,وكأن حماس لا حاجة لها به !!
(2) ارتباط سياسي /عاطفي
ان طول مدة تحكم حماس في مفاصل غزة خلق معادلة ارتباط سياسي/عاطفي لدى الحركة بان القطاع بات يشكل لها موقع قوة متقدم, لم يعد ليس من السهل الفكاك منه !!
فحماس تنظر الى القطاع على انه الحاضنة الشعبية ومركز انطلاقها وساحة تنامي قوتها البشرية والعسكرية ,ورسم جزءا كبيرا من تاريخها ومسيرتها السياسية وصبغ تجربتها في الحكم.
لقد اطلقت شعارات كثيرة عززت هذا الارتباط :"غزة العزة ..غزة تنتصر ..غزة تقاوم ", وفي بعض الاحيان بالغت في رسم العلاقة , واصبح اسم غزة يتردد كثيرا في الخطابات والمهرجانات, لدرجة ان البعض صار يعتقد انه تحاك مؤامرات (لاستعادة) غزة, ومن ثم انبرى بالقول ان حماس "لن تسلم غزة ",وانه بمثابة "تسليم شرف غزة ", وكأن هذا الصبي يُخشى عليه أن يُنتزع من حضن أمه !!
هذه المبالغة دفعت كثيرا من السياسيين والمحللين الى الذهاب بعيدا بان (حماس تبني دولة او امارة في غزة ) ,غير أن حماس ردت بقوة بالشعار الذي اطلقه اسماعيل هنية (لا دولة في غزة ولا دولة بدون غزة) .
الحقيقة هي أن حماس تبني (وجودها/قوتها) في غزة , ربما في قوالب مختلفة , لكن ليس في اطار دولة او امارة لانه امر غير متحقق لا واقعا ولا سياسية .
هذه المبالغة في العلاقة دفعت اطرافا عديدة للتعاطي مع هذا الواقع في اتجاهين :
الاتجاه الاول ,وتبنته اطراف عربية ودولية واسرائيلية, ارادت لحماس ان تُحصر / تُسجن في غزة , بل ان تغرق في المشاكل والازمات التي تفنن الاخرون في اختلاقها ووضعها على طاولة الحركة , لذا فان حماس أرهقت بكل أزمات وتفاصيل غزة, واصبح الحصار همها الاكبر ,وهيمن كثيرا على أولوياتها وخطابها واستنفذ منها جهدا وطاقة كبيرة .
كان ينبغي على حماس ان تتجنب هذه (المؤامرة) لو عالجتها بشيء من (الدهاء والصبر السياسي), لكن للاسف ان كرة غزة عادت وتدحرجت في حجرها مرة ثانية .
صحيح ان حماس كانت صادقة في توجهاتها لانجاح المصالحة وتعزيز دور حكومة الوفاق , لكن هذا الصدق كان يستلزم صبرا (مُرا) وحكمة أوسع لاجتياز المرحلة والخروج من عنق الزجاجة, وما كان ينبغي عليها ان تظل أسيرة لهذا الحصار الجغرافي السياسي!!
الحركة كانت احوج ما يكون لاعادة ترتيب اولوياتها وتخفيف عبء الحكم عن كاهلها , لكن يبدو ان فوضوية السلطة ونكوص حكومة الوفاق أرغم حماس على ان تبتلع الطعم مرة ثانية !!
حماس التي يصعب عليها (فراق) غزة ابقت على (حبل الوصال) من خلال تبادل المواقع بين الحكم والحكومة , وظل الكل – بما فيهم حكومة الوفاق – تعتقد ان حماس هي صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في غزة
الاتجاه الاخر : ذهب باتجاه التعاطي مع حماس (كسلطة امر واقع) لا يمكن تجاوزه ,خاصة بعد ان اقتنع هؤلاء بان مسار المصالحة طويل وشائك ,لكن دون أن يعطوا ذلك غطاء رسميا, ودون ان يمنحوا الحركة مساحات اوسع لتعزيز قدرتها على تلبية مطالب الجمهور.
(3) حماس في غزة..ما له وما عليه
ان "تعلق حماس " بغزة له وعليه !! ويجب ان نحاكم ذلك من منطق سياسي/عقلاني وليس من منطق عاطفي .
ان حماس تستطيع ان تفخر بانها حولت غزة الى " اسطورة " للبطولة للمقاومة ورمز من رموز تحدي الحصار, واسم تداولته الدول والعواصم بحيث اصبح نموذجا للحالة الفلسطينية ودلالة على جرائم وبشاعة الاحتلال .
لكن طغيان (غزة ) في ثقافة وفكر الحركة ربما أثر عليها في استحضار الكثير من الحسابات والموازنات السياسية , وحجب عنها رؤية الافق الاوسع والارحب خارج نطاق هذه البقعة الجغرافية الصغيرة .
ان ذهاب البعض بان غزة هي (رأس الحربة ) ,وانها (تدافع عن شرف الامة) ,وانها (النموذج الفريد من نوعه )...الخ ,هذه اللافتات الكبيرة خلقت احساسا كبيرا بالتعاظم , وقناعة بان الحسابات السياسية والوطنية يجب ان تقاس وتحاكم على الواقع القائم في غزة , وهو امر لا يروق لكثير من الاطراف المحلية والدولية .
ان اشتداد الصراعات التي تجري في الدول المحيطة وتدخل الدول الكبرى وتراجع الربيع العربي واعادة صياغة المنطقة بشكل مرعب يفرض على حماس ان تفكر خارج (صندوق غزة) , ولكي لا تكون غزة ضحية هذه الصراعات المجنونة التي تعصف بالمنطقة .
ان سياسية (الثبات) جيدة , لكنها ابدا غير كافية في صد العواصف والزوابع السياسية , وما لم تكن صاحب مبادرة واسهام في الحالة فان العواقب لن تكون سهلة .
ان السلطة/الحالة الفلسطينية التي تعاني من انهيار سياسي مزمن , يفرض على حماس الا تقف موقف المتفرج , والا تكتفي فقط بالتلويح بقوتها العسكرية وبشعارات التحرير وان غزة تمثل (الجدار الاخير), بل يجب عليها ان تتحرك بقوة في الساحة السياسية والوطنية لتجميع شتات الحالة الفلسطينية الممزقة المتشرذمة باعتبارها عمود الخيمة في المشروع الوطني.
ان الجمود السياسي وفشل المصالحة وزيادة حدة الانقسام و(حشر) حماس في غزة هي أشد العوامل الخطرة المهددة للمشروع الذي تتبناه الحركة , وما لم تقم بدور (المنقذ) للحالة الوطنية وفي رمي الطوافات وانتشال الغرقى , فان الواقع الفلسطيني بكليته سيسير نحو الاسوأ ,وستكون حماس أكثر المتأثرين به.
(4)حكم غزة المكلف !!
الوجه الاخر ,(غزة الحكم والسلطة ) لا يمنح حماس كثيرا من الحسابات المريحة .
لقد اجتهدت بقوة أن تقدم كل ما لديها من طاقة وخبرة لادارة القطاع على نحو افضل لكن الامواج كانت عاتية والموارد محدودة والظروف معاكسة !!
هناك من يتصور انه لولا الحكم لما استطاعت حماس ان تبني قوتها العسكرية , وهذا في جانب منه صحيح , لكن في المقابل فان موازنات الحكم تضع كثيرا من القيود والموازنات على حرية المقاومة وقدرتها على ممارسة النشاط الموجه ضد الاحتلال .
لقد تعددت الجبهات المفتوحة ,والتي أرهقت حكم حماس , سواء من اسرائيل التي مارست كل اشكال العقاب والافشال, أو من قبل حركة فتح/السلطة التي رأت في حكم حماس "كارثة وطنية" , او من قبل مصر التي رفضت التعامل معها, وضيقت عليها الخناق وقيدت تحركاتها والصقت بها تهما من النوع الثقيل , أو من قبل المجتمع الدولي الذي يرى في حماس معارضا لتوجهاته بشان القضية الفلسطينينة , ثم الوضع الداخلي الذي تراوح في اعترافه وتعامله مع حماس ما بين (سلطة الامر الواقع) وحركة وطنية لها تاريخ وحضور .
هذه الاطراف-على اختلاف توجهاتها- وصلت الى قناعة بانه لا يمكن ازاحة حماس بالقوة العسكرية ولا بالتمرد الجماهيري , لذا فان هناك من سلم بالامر الواقع الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا , وهناك من حاول دفع حماس الى سكة المصالحة باعتبارها المخرج الوحيد.
هذه المعادلات الجيوسياسية وضعت حماس في مربع غير مريح , فرض عليها مواجهة طوفان السهام/المشاكل اليومية المرهقة, في وقت لم تكن كثير من مفاتيح حلول الازمات بيدها.
فضلا عن ذلك, فان مما ارهق حماس في حكمها في غزة انه اعتمد على نمط (الحزب الواحد),ولم ينجح في استقطاب شخصيات من خارج اطارها التنظيمي.
لقد حاولت حماس اسناد القطاع الى لجان وطنية غير ان الامر لم يتسن ,لاسباب ذاتية وموضوعية ,وهذا يفرض على حماس اعادة صياغة ثقافتها وأدبياتها في التعاطي مع المجتمع ومكوناتة وكيفية خلق جسور ثقة وتحالفات متينة تجدها سندا وقت الازمات.
ربما ساعدت حماس بترسيخ هذه الصورة من خلال بعض السلوكيات والتصريحات التي أوحت بقوة ان حماس لا تزال هي سيدة الموقف وصاحبة القرار .
لو ان حماس غلبت عقلية الدولة على عقلية التنظيم لكان يمكن ان تتجاوز الكثير من المعضلات والازمات التي واجهتها ,ولكان من الممكن ان تتجنب الكثير من الانتقادات .
ربما طبيعة المرحلة السياسية التي نحياها (لا دولة قائمة ..ولا سلطة حقيقية ) تجعل من سلطة التنظيم اقوى واكثر سيطرة , وهذا الامر ينسحب على باقي الفصائل بشكل عام .
**خلاصة : ان واقع حماس في غزة يفرض عليها ان تكسر الروتين الجغرافي والسياسي (حتى لو فُرض عليها) ,وان تتحرك في مساحات أوسع لانقاذ الحالة الوطنية ,ويفرض عليها التخفف من أعباء الحكم واعادة ترتيب اولوياتها واوراقها بما يضمن وضع مشروعها على سكة المسار الصحيح.. وهذا يحتاج الى خيارات (عبقرية /استثنائية) في التعامل مع الواقع القائم .