بداية أقول بأنه إذا مر هذا اليوم الأحد ال 29/5 وقام الإسرائيليون بمسيرتهم الاستفزازية، واقتحموا أسواق القدس دخولا من باب العامود، ومارسوا حقدهم وعنجهيتهم وزعرنتهم ضد أهلنا في القدس، وتبجحوا وعربدوا بشكل هستيري في أسواق البلدة القديمة بالقدس وهم يطرقون أبواب المحلات التجارية الفلسطينية التي أجبر أصحابها على إغلاقها قسرا، دون أن يضع أحد حدا ً لهذه الزعرنة والبلطجة، فإن ذلك يجب أن لا يُزعزع إيماننا وثقتنا بأن كل هذه العربدة والزعرنة والضجيج العنصري الاستفزازي لا يمكن أن تصدر إلا عن خائف مذعور يعبر عن خوفه بالضجيج تماما ً كمن يسير في ظلمات الليل يُصفر أو يُغني محاولا ً عبثا ً أن يتغلب على الخوف المتغلغل في أعماقه.
وبعبارة أوضح، إذا حدث كل ذلك دون أن تقوم المقاومة في قطاع غزة بتنفيذ وعودها بالتدخل وردع الإسرائيليين عن التمادي في غيهم واستفزازاتهم بالقدس ومنعهم من الاستمرار في هذه المسيرة فإن علينا أن لا نشعر بالقلق أو خيبة الأمل بل أن نلتمس لها العذر.
وعلى الجميع أن يُدرك بأنه لو كان الإسرائيليون واثقون بأن القدس باتت عاصمة لهم دون شك، لما احتاجوا أن يقوموا بكل هذا الضجيج وهذه الأعمال الفجة الوقحة ضد مدنيين وجدوا
أنفسهم تحت احتلال عنصري استيطاني. ولو كان الإسرائيليون واثقون أن هذا الوضع المؤقت الذي يعيشونه ليس مؤقتا ً بل سيدوم لهم لعادوا الى ممارسة الحياة الطبيعية دون ضجيج غوغائي لا يصدر إلا عن مرعوب خائف. ولو كانت القدس هي فعلا ً عاصمة إسرائيل فإنني أتحدى الإسرائيليين بأن يسحبوا جنودهم ورجال أمنهم من شوارع القدس ثم يروا هل يجرؤ أي ٌ من هؤلاء المتطرفين العنصريين على الاقتراب من شوارع القدس. فهؤلاء جاؤوا للقدس تحت حراب الاحتلال وتحت حراسة جيشه ورجال أمنه ووجودهم وأعمالهم الاستفزازية هي انعكاس لحقيقة وجود القدس تحت الاحتلال.
ولكنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذا الوضع هو وضع مؤقت زائل لا محالة، ويدركون أن الحيازة التي تورث تملّكا ً يجب أن تكون حيازة مستقرة وهادئة حسب أبسط المبادئ القانونية التي يتعلمها طلاب سنة أولى حقوق، وأن حيازتهم للقدس لم تكن ولن تكون في أي يوم من الأيام حيازة مستقرة وهادئة، وأن في القدس أهلها الذين حتى لو تخلى عنهم كل ذوي القربى، لن يسمحوا لهذا الاحتلال أن يستقر أو يهدأ له بال وسيبقى حالة مؤقتة ً طارئة الى أن يزول.
لقد تعالت أصوات كثيرة خلال الأيام الماضية تُحذر من أنه إذا قامت إسرائيل بإجراء مسيرة الأعلام كما هو مخطط لها وعبرت من باب العامود الى طريق الواد ثم بوابات الحرم الشريف فإن هذا يعني أنهم حسموا وضع القدس عاصمة لهم. ولعلي أستشف من أقوال هؤلاء بأنهم يريدون حث المقاومة وخاصة في غزة لتقوم بالرد اقتداء بخبرة الماضي وما سمي في حينه بسيف القدس. وأقول لكل هؤلاء بأن أهل غزة أدرى بشعابها، وأن الحرب ليست نزهة ً ولا ترفا ً، وأن قرار الحرب لا يمكن أن يكون رد فعل بل يجب أن يكون فعلا ً مدروسا ً بكل ما يعني ذلك من أخذ لزمام المبادرة وفق حسابات دقيقة وتقدير للموقف وأخذ القرار الذي تمليه كل المعطيات بعد التحقق من صحتها ووضع السيناريوهات المحتملة لكل فعل أو رد فعل.
ومن هنا فإنني لن أتفاجأ ولن أشعر بالإحباط أو خيبة الأمل إذا تحلت المقاومة في غزة بضبط النفس ولم تسمح للمسيرة الاستفزازية الوقحة أن تنجح في استفزازها وجرها الى معركة ربما ليست في وقتها.
بل وأكثر من ذلك فإنني ادعو من هذا المنبر بأن لا تنجر المقاومة الى حرب تُفرض عليها وأن لا ترقص على إيقاع طبول العدو بل تهيئ وتتهيأ لخلق الظرف الذي يجعل العدو يرقص على صوت طبولها.
وإذا كنت لن أشعر بالإحباط أو اليأس إن لم أر الصواريخ تنطلق من غزة صوب إسرائيل، بل سأتفهم وضع الأهل في غزة والتمس لهم العذر الذي اضطرهم الى كظم الغيظ والقبض على الجمر بأصابع غير مرتعشة، فإنني لن أستغرب أو أتفاجأ أيضا ً اذا خرجت جماهير القدس والضفة لتقول لهذا الاحتلال العنصري "لا" وألف ألف لا...
مسيرة الأعلام ليست مسيرة احتفالية بالمفهوم المتعارف عليه بكل قواميس اللغة وإنما هي مسيرة همجية عنيفة وتُشكل عدوانا ً سافرا ً على حياة المواطن المقدسي وأمنه وسلامته وحريته الفردية والجمعية. فهؤلاء الغزاة لا يسيرون حاملين الأعلام فقط بل هم كالذئاب الجائعة المرعوبة المسعورة يعتدون على كل ما هو عربي في طريقهم، وما يسمى بشرطة الاحتلال بالقدس تقف عاجزة عن حماية المقدسيين العزل من السلاح فلا تكبح جماح متطرفيها وتمنعهم من الاعتداء على العرب وممتلكاتهم وإنما تطلب من المقدسيين أن يُغلقوا محلاتهم وأن يخلوا الشوارع ويختبئوا في بيوتهم خشية من المتطرفين اليهود، وتُنكر عليهم حقهم في ممارسة حياتهم اليومية بهدوء وأمان. وهذا هو أكبر دليل على تواطؤ هذه الشرطة أمام المسيرة العنصرية الاستفزازية أو عجزها عن الوقوف أمامها.
وأخيرا ً، لا بد من التأكيد على حق المواطن المقدسي الفلسطيني المدني الأعزل من السلاح في أن يمارس حياته اليومية الاعتيادية، وإذا عجزت شرطة الاحتلال عن تمكينه من ممارستها فإن من حقه أن يدافع عن نفسه وعن أمنه وكرامته ، بأن يتصدى لهذه المسيرة ويدافع عن حقه في الحياة العادية دون تعد أو قهر أو استفزاز من أحد. وعلى من يتقاعسون عن تمكينه من ممارسة هذا الحق، أو يحاولون منعه من ممارسته، أن يتحملوا مسؤولية عواقب أعمالهم.