كان من المفترض أن يكون اليوم الأول لعمل غفران وراسنة في إحدى الإذاعات المحلية في منطقة الخليل، يقول أحد الشهود من الذين كانوا في طريقهم للمرور عبر الحاجز: "كانت تقف بعيدة من الجندي، كمن تنتظر سيارة أو حافلة، لم تكن تحمل شيئاً، كانت واقفة عندما أطلق عليها جندي الاحتلال طلقة أصابتها في الجهة اليسرى من صدرها".
شاهد آخر يقول: "لقد تركوا وجهها مكشوفاً".
في الصورة أربعة جنود يحيطون بجثتها الملقاة على رصيف ترابي، بينما جندي خامس يقف في الجهة المقابلة من دون أن ينظر نحوها، كان يقف تحت خوذته كما لو أنها، الخوذة، ولدت معه، وهو يقف أمام جثة شابة قتيلة في الثلاثين تلبس حذاءً أبيض، كما لو أنها شجرة كانت دائماً هنا.
أستطيع أن أتخيل الطريق الذي قطعته من قرية "الشيوخ" إلى الحاجز الاحتلالي على مدخل المخيم، مشهد فقد الكثير من عناصره ولكنه بالنسبة إلي بقي راسخاً لم يبدله الزمن، فقد قضيت شيئاً من طفولتي هناك، وحافظت على كل شيء، حتى تلك الأشجار المعمرة الغريبة بجذورها المكشوفة حيث كنا نعلق مراجيحنا البدائية، والتي كانت تشكل قوساً ممتداً على جانبي الطريق وأزيلت في ما بعد، ما زلت أحتفظ بهيبتها وحضورها مثل معجزة.
أستطيع أن أتخيل مرورها عبر كروم الخوخ والدراق في أراضي الشيوخ، ثم بمحاذاة البركة التي بناها الرومان لسقاية القدس، حوض حجري هائل بعمق خمسة أمتار وطول سبعين متراً من دون أسيجة، هناك غرق العديد من الأشخاص وأصبحوا جزءاً من رواية المكان ومخاوف الليالي المظلمة التي تبدأ مبكراً وهواجسها، أطفال لا يجيدون السباحة وعابرون تعثرت أقدامهم بسبب العتمة والضباب ويائسون ألقوا بأنفسهم في عتمتها، ستكون عندها قد مرت على "عين البرادة"، أحد الينابيع الكثيرة في "وادي العروب" والتي كانت مياهها تصل إلى القدس عبر "قناة السبيل" بعد أن تصب في "برك سليمان" غير بعيد من دير الجنة المقفلة في "أرطاس"، القناة التي بناها هيرودس ورممها كل الذين حكموا بعده، صليبيين ومماليك وأتراكاً، كانت القدس دائماً بحاجة للماء.
ستعبر الآن نحو أول بيوت المخيم، هناك شجرة تين هائلة خلف "سنسلة" حجرية وتترك أغصانها فوق الطريق، كانت تشكل تمارين الهواة الأولى لسرقة الثمار، المحترفون من صبية المخيم كانوا يذهبون أبعد نحو الكروم الكثيفة لقرية الشيوخ، الآن ستنعطف وتصعد في الطريق المعبّد نحو مدخل المخيم الشمالي حيث الطريق الرئيسي الواصل بين بيت لحم والخليل، ستمر في طريقها على عيادة الوكالة والمطعم والمدرسة، وستواصل طريقها بموازاة حارات المخيم وأزقته حتى المفترق، هناك حاجز لجنود الاحتلال يتحكم بالخارجين والداخلين، وهناك أيضاً ستنتظر إحدى الحافلات الصغيرة التي تعمل بين بيت لحم والخليل في اليوم الأول لعملها مذيعة للأخبار. ستقف كما روى الشاهد الذي رأى، وسيطلق الجندي النار على صدرها.
هذه تقريباً حادثة اغتيال الصحافية الفلسطينية الشابة (31 عاماً) غفران ورانسة صباح الأربعاء الأول من شهر حزيران (يونيو).
مساءً سيقتحم جنود الاحتلال مخيم الدهيشة، وسيطلقون النار على أيمن محيسن وفي الشمال سيقتلون بلال كبها.
بينما سيصوّت أغلبية أعضاء الكنيست على "تجريم رفع العلم الفلسطيني"، سيحصل القانون الجديد على 63 صوتا وسيعترض 16، ملاحقة العلم الفلسطيني الذي تحول الى هوس حقيقي في "إسرائيل"، العلم الذي يظهر في أمكنة غير متوقعة مثل جامعة تل أبيب ومعلقاً في مسيرة في سماء القدس وفي مسيرات العودة إلى القرى المهدمة في مناطق الـ48 والجليل والنقب... ليس علم منظمة التحرير، لقد سبق ذلك بكثير ولكنه تعزز خلال ثورة 1936، ثورة الفلاحين الكبرى، هذه عودة إلى معركة مع رموز سبقت النكبة بكثير، ولذلك يبدو التصويت ضد العلم الفلسطيني بعد 75 سنة على تأسيس "الدولة" نموذجياً بالنسبة الى ممثلي البرلمان الإسرائيلي من الفاشيين والعنصريين في دولة يرأسها مستوطن، الحقيقة أنه يمكن ضمن تركيبة الكنيست الحالية تمرير أي قانون يضمن إلحاق الأذى بالفلسطينيين، بعدما توفرت البنية التحتية لمثل هذه القوانين من خلال قانون "يهودية الدولة".
إطلاق النار على غفران على مفترق العروب ثم الاعتداء على جنازتها ومحاولة منعها من الدخول إلى المخيم، واغتيال بلال في جنين وأيمن في الدهيشة وإغلاق مداخل "بيتا" لليوم السابع، هي آلية تنفيذ هذه القوانين ولا تنفصل عنها، وهي القراءة الوحيدة المتوفرة لدى ضباط الاحتلال وجنوده.
المواجهة في فلسطين تعود منذ سنوات إلى مكوّناتها الأولى، لم يعد ممكناً الحديث عن حل الدولتين أو اتفاقيات أوسلو، الصراع يتشكل عبر عناصره الأساسية ورموزه الأولى وبعفوية شعبية مدهشة، وهو في تشكله هذا يواصل عزل النخب السياسية التقليدية ويتجاوزها. الأمر أن ما يحدث هو خارج البنى التقليدية وخارج وعيها وخارج النظام الذي استرخت في جنباته، بحيث يبدو خطابها أكثر رثاثة وبلاغة مجوّفة في أفضل أحواله، كان هذا واضحاً في مواجهة "مسيرة الأعلام" وفي مواجهات القدس التي سبقت المسيرة، الشيخ جراح وسلوان وتشييع شيرين، وقبلها في الخان الأحمر وبيتا.. وهو ما يحدث الآن ويتراكم، وما لم تتوقعه أو تتأمله أو تتمكن من إدراكه النخب السياسية في المقاطعة وفي غزة.