نكسة لكن هناك أبطال في حزيران ‏1967‏

تنزيل (4).jpg
حجم الخط

بقلم: واصف عريقات 

 

 

لكل شيء وجهين، هناك وجه مضيء وهناك وجه مظلم، كما ان لكل واحد منا وجهة نظر ولا بأس في ‏ذلك طالما اننا نتقبل وجهة النظر الأخرى حتى لو كانت تركز على النواحي السلبية، او تضع العقدة في ‏المنشار كما يقال. واستميح القارئ عذرا انني اركز دائما على النواحي الايجابية في حياتنا، فكثرة الحديث ‏عن السلبيات يهدم المجتمعات ويفقد الناس ثقتهم بانفسهم.‏

 

ما دفعني لكتابة هذه المقدمة ان معظمنا يتحدث عن نكسة حزيران عام 1967 وعن سلبياتها وهذا لن ‏يقدم للاجيال دروسا وعبر، لا احد ينكر هزيمة الجيوش العربية وانتصار اسرائيل ولا يمكن الدفاع عن ‏التقصير العربي، ولكن لا يجب ان تغطي الهزيمة على تضحيات شعبنا الذي صمد على ارضه وصبر ‏امام كل جرائم الاحتلال وعانى الامرين، وهناك ابطال سواء جنود مقاتلين في الميدان او مدنيين صامدين ‏وشهود عيان على جرائم الاحتلال، ومن الواجب "فضح جرائم الاحتلال وتكريم الابطال الذين قاتلوا واستشهدوا ‏‏او جرحوا دفاعا عن الارض والعرض، عدونا يخرج علينا في كل يوم بقصص تحوي ‏روايات كاذبة لمجرمين ارتكبوا اشنع الجرائم بحق شعبنا على انها بطولات وتخدم مصالحهم، علما بان ‏لدينا من الابطال ومن الروايات اكبر بكثير مما عند اعدائنا التي يتبجحون بها وينشرونها على وسائل ‏الاعلام، في حزيران انتصر شعبنا بثباته على ارضه وحين عادت الباصات التي جهزها الاحتلال لتهجيرة ‏ونقله فيها للحدود فارغة، وانتصر حين تحمل كل الاوجاع والعذابات، وفي روايتي بعضا منها:‏

 

يوم 4 حزيران 1967 كنت ضابطا برتبة ملازم في كتيبة المدفعية السادسة الثقيلة من سلاح مدفعية ‏الجيش الاردني ومقرها الزرقاء وبطاريات منها في الضفة الغربية وكنت في دورة تدريب رجال الصاعقة ‏والمظليين رقم 9 المنعقدة في مدرسة مشاة الجيش الاردني بعوجان قرب الزرقاء والتي بدأت يوم 20 ‏نيسان، حين طلب منا بشكل مفاجئ التوقف عن التدريب والالتحاق بالمواقع الميدانية على اثر اعلان ‏حالة الطوارئ، وكانت البطارية التي انتمي لها متموضعة في قرية الزبابدة بمحافظة جنين لاسناد لواء ‏المشاة خالد ابن الوليد، فرحنا بالخبر لاننا سنقاتل عدونا، وصلت الزبابدة بسرعة قياسية، وجدت زملائي ‏في البطارية يستعدون للمواجهة بشغف، ووجدت ان قسما منها مدفعين 155 ملم قد تم تحريكهما ‏لقرية اليامون وذلك لقصف الاهداف التي لا تطولها مدافع الزبابدة، وقد تحرك هذا القسم بقيادة زميلي ‏وصديقي الملازم الاول محمد محمود ابوالفول من كفر عان – اربد حيث كنت واياه قادة اقسام ونتناوب ‏في المهام خاصة مهمة الرصد والملاحظة من مرتفعات جنين، وتحرك معه الزملاء من البطارية: الرقيب ‏يحيى حسن المعايطة من ادر – الكرك، والجندي اول سمير مصطفى القضاة من عبين-عجلون، ‏والجندي الاول علي عقيل سليمان من عيمة في الطفيلة، والجندي اول خليفة مصطفى محسن من حور ‏‏– اربد، والجندي امين سلامة المومني من صخرة – عجلون، والجندي اول سالم سليمان بطارسة من ‏سوف – جرش، والجندي احمد نجيب خلف الحموري من بيت راس – اربد، والعريف محمود شكري مرشد ‏من قصرا – نابلس.‏

 

في صباح اليوم التالي 5 حزيران ومع بدءعدوان الجيش الاسرائيلي وسقوط القذائف الاسرائيلية على ‏مواقع الجيش العربي الاردني بدأنا بمشاغلة الاهداف بحسب القائمة المعدة للمعركة (بنك الاهداف) وفي ‏مقدمتها المطارات القريبة خاصة مطار مجدو ومواقع المدفعية ومحاور تقدم الدبابات الاسرائيلية، لن ‏انسى تلك اللحظات والفرحة العارمة عند طواقم المدافع وصيحة الله اكبر مع كل قذيفة تنطلق من فوهات ‏المدافع نحو الاهداف المعادية، كانت الاصابات دقيقة، كثفت الطائرات الاسرائيلية من طلعاتها فوق ‏مواقعنا وبدأت تحوم فوق هذه المواقع، مما اضطر المدافع للتوقف عن الرمي بوجود الطيران ودون ‏غطاء جوي، خاصة بعد ان قصف الطيران الاسرائيلي المطارات العربية ومنها الاردنية وفقدنا اهم سلاح ‏اسناد، واصبحت مواقع القوات كلها مكشوفة من الجو وتقاتل بدون غطاء وحماية، ومع كل ذلك كنا ‏نستغل فرصة غياب الطائرات الاسرائيلية ونقصف ارتال الدبابات المتقدمة على الرغم من الفارق الكبير في ‏العدد والعتاد. ‏

 

يومي 6 و 7 حزيران بدأ الوضع يتفاقم ويتجه للاسوأ مع اقتحام ارتال الدبابات عبر المحاور كافة، ازداد ‏سوءا مع استشهاد قائد مدفعية اليامون الملازم اول محمد ابوالفول اثناء تنقله بين المواقع وهو ‏في طريقه الى اليامون حيث تعرضت دبابة اسرائيلية لسيارته وداستها بجنزيرها واستشهد على ‏الفور ونجا سائقها من الحادث الجريمة، وواصلت مدافع اليامون ومدافع الزبابدة قصفها الاهداف ‏حسب الخطة المرسومة وحسب تطورات الموقف الميداني.‏

 

استخدم الجيش الاسرائيلي نمط التجاوز والالتفاف والاندفاع السريع بالعمق في ظل اسناد جوي، وفي ‏يوم 7 حزيران اقتحمت الدبابات الاسرائيلية موقع المدفعية في قرية اليامون بعد قصف كثيف ومركز على ‏الموقع من قبل مدفعية وطيران العدو ادى الى استشهاد البعض وجرح البعض الاخر وتعطيل احد ‏المدافع وتصدى من تبقى منهم على قيد الحياة للدبابات المعادية بالامكانيات المتوفرة والمتواضعة، الى ‏ان استشهدوا جميعا ومع كل ذلك اطلق جنود الاحتلال النار عليهم من نقطة صفر. ‏

 

ومع اقتحام موقع اليامون ووصول معلومات باقترابهم من قرية الزبابدة طلب منا اخلاء الموقع ‏والتموضع في موقع خلفي، وعند بدء التحضير للرحيل هب اهلنا الطيبون في الزبابدة يعرضون ‏المساعدة، كنا في سباق مع الدبابات الاسرائيلية التي اقتربت من مواقعنا، واخذت تتقدم نحونا، طلبنا من ‏بعض الجنود اعاقة تقدمها واشغالهم بالرمي لحماية خروج المدافع وفعلوا وتمكنت المدافع من الافلات ‏من قبضتهم، تم تكليفي بالعودة لموقع قيادة البطارية المجاور لمخفر الفرسان الذي اصبح مدرسة ‏لتلاميذ الزبابدة، وذلك من اجل اتلاف الوثائق الرسمية وتعطيل كل ما يستفيد منه العدو، وبينما كنا نقوم ‏بذلك اقتحمت الدبابات الاسرائيلية موقعنا وكانت تحمل الاعلام العراقية، طلبت من زملائي الجنود التراجع ‏للخلف حيث لا يوجد معنا قواذف ضد الدبابات، ومع حلول الظلام بدأنا بالتحرك نحو قرية صير حيث ‏سيكون موقع المدافع الجديد، فوجئنا ايضا بوجود الدبابات الاسرائيلية، ولا يوجد معنا وسيلة اتصال، ‏وصلنا الى بلدة طوباس، كانت هناك امراة جليلة مسنة تخبز في الطابون، اصرت على اطعامنا من خبزها ‏وقدمت لنا ما تيسر عندها من طعام ورغم عدم شعورنا بالجوع الا ان نخوتها وكرمها جدد نشاطنا، ‏ذهبت المرأة واحضرت بعض الملابس المدنية وقالت البسوها حتى لا يقبضوا عليكم، شكرناها وطلبنا منها ‏الاحتفاظ بالملابس لاصحابها وتابعنا المسير بلباسنا العسكري وسلاحنا الفردي، وحينما علمت بان مدافعنا ‏عبرت النهر باتجاه الشرق، قررت وزملائي الجنود ان يتوجه كل منا سيرا على الاقدام لقريته ويساهم في ‏الدفاع عنها، لكننا فوجئنا بسيطرة الجيش الاسرائيلي على معظم الطرق فاضطررنا للتوجه شرقا وعبرنا ‏نهر الاردن واستغرق منا ذلك ثلاثة ايام. ‏

 

اما شهداء اليامون وعلى الرغم من اقتحام الدبابات للموقع والبلدة ومواصلة القصف تمكن اهلها ‏الطيبين من نقل جثامينهم الى مغارة في القرية وفيما بعد تم نقلهم وتكريمهم ودفنهم في مقبرة البلدة ‏ووضعوا اسم كل منهم فوق قبره، وما زالت قبورهم في اليامون شاخصة شامخة. ويروي أهالي البلدة ‏كيف وجدوا الضابط الجريح عبد العزيز العدوان على قيد الحياة اثناء نقلهم الجثامين للمغارة، حيث كان ‏جسده ساخنا وما زال ينبض، ومن ثم عالجوه واحتضنوه الى ان عاد للاردن. ‏

 

وما حصل معنا في محور جنين حصل في المحاور الاخرى بل ربما اشد واقسى، وادت هذه الحرب ‏الثالثة الى احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، هزمت فيها الجيوش ولم تهزم ‏الشعوب. ورحم الله من سبقنا على الدرب والمجد لصناع المجد. ‏