لكل شيء وجهين، هناك وجه مضيء وهناك وجه مظلم، كما ان لكل واحد منا وجهة نظر ولا بأس في ذلك طالما اننا نتقبل وجهة النظر الأخرى حتى لو كانت تركز على النواحي السلبية، او تضع العقدة في المنشار كما يقال. واستميح القارئ عذرا انني اركز دائما على النواحي الايجابية في حياتنا، فكثرة الحديث عن السلبيات يهدم المجتمعات ويفقد الناس ثقتهم بانفسهم.
ما دفعني لكتابة هذه المقدمة ان معظمنا يتحدث عن نكسة حزيران عام 1967 وعن سلبياتها وهذا لن يقدم للاجيال دروسا وعبر، لا احد ينكر هزيمة الجيوش العربية وانتصار اسرائيل ولا يمكن الدفاع عن التقصير العربي، ولكن لا يجب ان تغطي الهزيمة على تضحيات شعبنا الذي صمد على ارضه وصبر امام كل جرائم الاحتلال وعانى الامرين، وهناك ابطال سواء جنود مقاتلين في الميدان او مدنيين صامدين وشهود عيان على جرائم الاحتلال، ومن الواجب "فضح جرائم الاحتلال وتكريم الابطال الذين قاتلوا واستشهدوا او جرحوا دفاعا عن الارض والعرض، عدونا يخرج علينا في كل يوم بقصص تحوي روايات كاذبة لمجرمين ارتكبوا اشنع الجرائم بحق شعبنا على انها بطولات وتخدم مصالحهم، علما بان لدينا من الابطال ومن الروايات اكبر بكثير مما عند اعدائنا التي يتبجحون بها وينشرونها على وسائل الاعلام، في حزيران انتصر شعبنا بثباته على ارضه وحين عادت الباصات التي جهزها الاحتلال لتهجيرة ونقله فيها للحدود فارغة، وانتصر حين تحمل كل الاوجاع والعذابات، وفي روايتي بعضا منها:
يوم 4 حزيران 1967 كنت ضابطا برتبة ملازم في كتيبة المدفعية السادسة الثقيلة من سلاح مدفعية الجيش الاردني ومقرها الزرقاء وبطاريات منها في الضفة الغربية وكنت في دورة تدريب رجال الصاعقة والمظليين رقم 9 المنعقدة في مدرسة مشاة الجيش الاردني بعوجان قرب الزرقاء والتي بدأت يوم 20 نيسان، حين طلب منا بشكل مفاجئ التوقف عن التدريب والالتحاق بالمواقع الميدانية على اثر اعلان حالة الطوارئ، وكانت البطارية التي انتمي لها متموضعة في قرية الزبابدة بمحافظة جنين لاسناد لواء المشاة خالد ابن الوليد، فرحنا بالخبر لاننا سنقاتل عدونا، وصلت الزبابدة بسرعة قياسية، وجدت زملائي في البطارية يستعدون للمواجهة بشغف، ووجدت ان قسما منها مدفعين 155 ملم قد تم تحريكهما لقرية اليامون وذلك لقصف الاهداف التي لا تطولها مدافع الزبابدة، وقد تحرك هذا القسم بقيادة زميلي وصديقي الملازم الاول محمد محمود ابوالفول من كفر عان – اربد حيث كنت واياه قادة اقسام ونتناوب في المهام خاصة مهمة الرصد والملاحظة من مرتفعات جنين، وتحرك معه الزملاء من البطارية: الرقيب يحيى حسن المعايطة من ادر – الكرك، والجندي اول سمير مصطفى القضاة من عبين-عجلون، والجندي الاول علي عقيل سليمان من عيمة في الطفيلة، والجندي اول خليفة مصطفى محسن من حور – اربد، والجندي امين سلامة المومني من صخرة – عجلون، والجندي اول سالم سليمان بطارسة من سوف – جرش، والجندي احمد نجيب خلف الحموري من بيت راس – اربد، والعريف محمود شكري مرشد من قصرا – نابلس.
في صباح اليوم التالي 5 حزيران ومع بدءعدوان الجيش الاسرائيلي وسقوط القذائف الاسرائيلية على مواقع الجيش العربي الاردني بدأنا بمشاغلة الاهداف بحسب القائمة المعدة للمعركة (بنك الاهداف) وفي مقدمتها المطارات القريبة خاصة مطار مجدو ومواقع المدفعية ومحاور تقدم الدبابات الاسرائيلية، لن انسى تلك اللحظات والفرحة العارمة عند طواقم المدافع وصيحة الله اكبر مع كل قذيفة تنطلق من فوهات المدافع نحو الاهداف المعادية، كانت الاصابات دقيقة، كثفت الطائرات الاسرائيلية من طلعاتها فوق مواقعنا وبدأت تحوم فوق هذه المواقع، مما اضطر المدافع للتوقف عن الرمي بوجود الطيران ودون غطاء جوي، خاصة بعد ان قصف الطيران الاسرائيلي المطارات العربية ومنها الاردنية وفقدنا اهم سلاح اسناد، واصبحت مواقع القوات كلها مكشوفة من الجو وتقاتل بدون غطاء وحماية، ومع كل ذلك كنا نستغل فرصة غياب الطائرات الاسرائيلية ونقصف ارتال الدبابات المتقدمة على الرغم من الفارق الكبير في العدد والعتاد.
يومي 6 و 7 حزيران بدأ الوضع يتفاقم ويتجه للاسوأ مع اقتحام ارتال الدبابات عبر المحاور كافة، ازداد سوءا مع استشهاد قائد مدفعية اليامون الملازم اول محمد ابوالفول اثناء تنقله بين المواقع وهو في طريقه الى اليامون حيث تعرضت دبابة اسرائيلية لسيارته وداستها بجنزيرها واستشهد على الفور ونجا سائقها من الحادث الجريمة، وواصلت مدافع اليامون ومدافع الزبابدة قصفها الاهداف حسب الخطة المرسومة وحسب تطورات الموقف الميداني.
استخدم الجيش الاسرائيلي نمط التجاوز والالتفاف والاندفاع السريع بالعمق في ظل اسناد جوي، وفي يوم 7 حزيران اقتحمت الدبابات الاسرائيلية موقع المدفعية في قرية اليامون بعد قصف كثيف ومركز على الموقع من قبل مدفعية وطيران العدو ادى الى استشهاد البعض وجرح البعض الاخر وتعطيل احد المدافع وتصدى من تبقى منهم على قيد الحياة للدبابات المعادية بالامكانيات المتوفرة والمتواضعة، الى ان استشهدوا جميعا ومع كل ذلك اطلق جنود الاحتلال النار عليهم من نقطة صفر.
ومع اقتحام موقع اليامون ووصول معلومات باقترابهم من قرية الزبابدة طلب منا اخلاء الموقع والتموضع في موقع خلفي، وعند بدء التحضير للرحيل هب اهلنا الطيبون في الزبابدة يعرضون المساعدة، كنا في سباق مع الدبابات الاسرائيلية التي اقتربت من مواقعنا، واخذت تتقدم نحونا، طلبنا من بعض الجنود اعاقة تقدمها واشغالهم بالرمي لحماية خروج المدافع وفعلوا وتمكنت المدافع من الافلات من قبضتهم، تم تكليفي بالعودة لموقع قيادة البطارية المجاور لمخفر الفرسان الذي اصبح مدرسة لتلاميذ الزبابدة، وذلك من اجل اتلاف الوثائق الرسمية وتعطيل كل ما يستفيد منه العدو، وبينما كنا نقوم بذلك اقتحمت الدبابات الاسرائيلية موقعنا وكانت تحمل الاعلام العراقية، طلبت من زملائي الجنود التراجع للخلف حيث لا يوجد معنا قواذف ضد الدبابات، ومع حلول الظلام بدأنا بالتحرك نحو قرية صير حيث سيكون موقع المدافع الجديد، فوجئنا ايضا بوجود الدبابات الاسرائيلية، ولا يوجد معنا وسيلة اتصال، وصلنا الى بلدة طوباس، كانت هناك امراة جليلة مسنة تخبز في الطابون، اصرت على اطعامنا من خبزها وقدمت لنا ما تيسر عندها من طعام ورغم عدم شعورنا بالجوع الا ان نخوتها وكرمها جدد نشاطنا، ذهبت المرأة واحضرت بعض الملابس المدنية وقالت البسوها حتى لا يقبضوا عليكم، شكرناها وطلبنا منها الاحتفاظ بالملابس لاصحابها وتابعنا المسير بلباسنا العسكري وسلاحنا الفردي، وحينما علمت بان مدافعنا عبرت النهر باتجاه الشرق، قررت وزملائي الجنود ان يتوجه كل منا سيرا على الاقدام لقريته ويساهم في الدفاع عنها، لكننا فوجئنا بسيطرة الجيش الاسرائيلي على معظم الطرق فاضطررنا للتوجه شرقا وعبرنا نهر الاردن واستغرق منا ذلك ثلاثة ايام.
اما شهداء اليامون وعلى الرغم من اقتحام الدبابات للموقع والبلدة ومواصلة القصف تمكن اهلها الطيبين من نقل جثامينهم الى مغارة في القرية وفيما بعد تم نقلهم وتكريمهم ودفنهم في مقبرة البلدة ووضعوا اسم كل منهم فوق قبره، وما زالت قبورهم في اليامون شاخصة شامخة. ويروي أهالي البلدة كيف وجدوا الضابط الجريح عبد العزيز العدوان على قيد الحياة اثناء نقلهم الجثامين للمغارة، حيث كان جسده ساخنا وما زال ينبض، ومن ثم عالجوه واحتضنوه الى ان عاد للاردن.
وما حصل معنا في محور جنين حصل في المحاور الاخرى بل ربما اشد واقسى، وادت هذه الحرب الثالثة الى احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، هزمت فيها الجيوش ولم تهزم الشعوب. ورحم الله من سبقنا على الدرب والمجد لصناع المجد.