بوليتكو: حرب أوكرانيا عكست المعادلة التاريخية في العلاقات الروسية الصينية

حجم الخط

بوليتكو :  بقلم ستيوارت لاو

 

 عندما زار الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين عام 1949، لم يكن إلا تابعا صغيرا. وتركه ستالين لأسابيع وسط الثلج منتظرا مقابلته في ببيته الريفي  “داتشا 2” الذي يبعد 27 كيلومترا عن العاصمة موسكو، حيث عبر الزعيم الصيني الذي كان يعاني من الإمساك، عن تذمره من كل شيء بدء من جودة السمك الذي قدم له إلى الفراش الذي نام عليه. وعندما التقى الرجلان وبدءا الحديث بشكل رسمي، هيمن ستالين على ضيفه الصيني وأجبره على صفقة أسلحة سوفييتية تشتريها الصين بقرض مشمول الفائدة.

 وبعد سبعة عقود، فإن دينامية القوة تظهورعملية ضبط جديدة. فقبل غزو أوكرانيا بقليل، سافر الرئيس فلاديمير بوتين إلى بيجين لحضور حفلة افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية وأعلن عن علاقة “لا حدود لها” مع صين شي جين بينغ، إلا أن أحداث الأشهر الأخيرة تكشف عن القوة الحقيقية في هذا الثنائي. فاقتصاد الصين الذي تبلغ قيمته 18 تريليون دولار هو أعظم بعشر مرات من اقتصاد روسيا. وتملك بيجين كل الأوراق الجيدة لكي تضع الشروط لأي شريان حياة من الأخ الأكبر. وفي الوقت الذي يواجه اقتصاد روسيا إنكماشا وتعطلا لتصدير النفط بسبب الحظر الأوروبي، فإن الصين هي الرابح الأكبر لكي يتحول إليها بوتين طالبا المساعدة.

 ورغم مشاركة شي بوتين بعداء الغرب والناتو إلا أن هذا لا يعني منح مساعدة غير مشروطة لروسيا. فكل ما يهم شي هو ازدهار الصين وأمنها وليس إنقاذ روسيا. وربما اشترت الصين بعضا من النفط الذي سيتم تحويله من أوروبا ولكن بتنازلات كبيرة وأقل من الأسعار العالمية. كما أن مساعدة الصين لروسيا مرهونة بعدم جذبها انتباه الدول الغربية لكي تفرض عليها عقوبات وتعرقل بيع بضائعها للدول الغنية في أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي.

ومن الناحية العامة أظهرت الصين تضامنا قويا مع موسكو، وزادت تجارتها الإجمالية مع روسيا وتخلت بالضرورة عن أوكرانيا، ووسعت من العقود المالية التي لا يستخدم فيها الدولار أو اليورو وضاعفت التعاون المستقبلي لتطوير التكنولوجيا العسكرية ونظمت مناورات عسكرية مشتركة في منطقة الباسيفك. واعترف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن مستقبل بلاده كامن في التعاون مع الصين “الآن وقد اتخذ الغرب “موقفا ديكتاتوريا” فستزيد علاقاتنا الإقتصادية مع الصين سريعا”.

 وعلى المستوى الشخصي، يبدو شي معجبا جدا ببوتين. وأطلق يون صن، مدير شؤون الصين في مركز ستيمصن على هذا الإعجاب بأنه “عقدة روسيا”، ولم يتحدث شي مع الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي ولا مرة رغم حديثه  مع بوتين.

ولكن هناك حدود جادة لهذه العلاقة “بدون حد”، وفي الوقت الحالي تؤكد الصين أنها لا تبيع أسلحة ولا قطع غيار إلى روسيا. ولا تريد الصين أن تكون ضحية للعقوبات. وتريد، وهو ما سيثير قلق بوتين أن ترفع كلفة الدعم لروسيا، فهي تريد تقييد مبيعات الأسلحة الروسية للهند التي تعتبر العدو اللدود لها عبر الهملايا. ويقول ماثيو كروينغ، نائب مدير سكوكروفت في المجلس الأطلنطي “بشكل يعكس شكل الحرب الباردة، ستصبح روسيا شريكا صغيرا للصين القوية. وهو ما سيثير غضب بوتين”.

ولم يكن سيناريو الدور الثاني ما تصوره الزعيم الروسي عندما قرر غزو أوكرانيا في شباط/فبراير مندفعا ببناء الماضي المجيد لأمته. وكان عليه معرفة أن هذا الأمر سيأتي لأن الصين بلد مهووس بتصحيح الإهانات التاريخية والحفاظ على موقع القيادة العالمي.  فقد ولى الزمن الذي كان فيه الإتحاد السوفييتي متفوقا أيديولوجيا وتكنولوجيا على الصين. وقامت شركة هواوي للتكنولوجيا ببناء شبكات 5 جي في روسيا فيما تريد هذه التعاون مع الصين في كل شيء من قطع غيار المقاتلات إلى تبادل العملات. ومن الأهمية بمكان أن الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ليسا فقط من فرض عقوبات على الصين، بل الاقتصاديات المتقدمة في آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة.

 ويرى أندريه كورتنوف، مدير مجلس الشؤون الدولية المدعوم من الكرملين أن النخبة الروسية ليست لديها شهية لكي تخدم كشريك صغير للصين. لكنه يعترف أن الخيارات المتوفرة لدى موسكو قليلة و “منذ بداية النزاع بدأت روسيا تشعر بالحاجة لروسيا بشكل مبكر لأن الصين تظل وبطرق عدة اللعبة الوحيدة المتوفرة ولها علاقات اقتصادية مع روسيا وبعلاقات متوقفة مع الغرب وعقوبات مفروضة على روسيا”.

ولعل أكبر حساب لدى الصين يتعلق بالمدى الذي عليها مساعدة بوتين بهزيمة الحظر الأوروبي المقبل على النفط الروسي. وسيؤدي الحظر الأوروبي لخلق فجوة في ميزانية روسيا إلا في حالة عثورها على زبائن جددا. وفي هذه النقطة لدى الصين ورقة نفوذ على روسيا من ناحية الكمية التي تريد شراءها.

وتعد روسيا والسعودية من أكبر منتجي النفط الذين تستورد الصين نفطها منهم. ففي أيار/مايو وصلت نسبة النفط الروسي المشحون بالبحر إلى الصين لأعلى مستوى منذ عامين وبـ 1.14 مليون برميل في اليوم، أي أعلى من 800.000 برميل في اليوم عام 2021، وذلك حسب بيانات “فورتيكس اناليتكس”.

ويمكن رد هذا إلى حسابات اقتصادية من الصين وليس تعبيرا عن التضامن مع روسيا. ولكن العقوبات الدولية تعني أن المتعاملين في النفط يظلون خائفين من التعامل مع النفط الروسي الخام، بشكل يؤدي إلى حالة تخمة في السوق ويباع فيها برميل النفط الروسي بـ 20- 30 دولار وأقل من سعر البرميل في السوق العالمي. ولأن الصين تستورد كل يوم 10 ملايين برميل نفط، فهناك مساحة كي تشتري أكثر، وبخاصة بعدما تعود عجلة الإقتصاد وتتم إزالة الإجراءات التي فرضت بسبب كوفيد تدريجيا عن مدن مثل شنغهاي. ولكن مبيعات روسيا للإتحاد الأوروبي اليومية هي 2.4 مليون برميل، والصين التي تحاول تنويع مصادر نفطها ولا تعتمد على مصدر واحد لن تسارع لشراء فائض النفط الروسي بسبب الحظر الأوروبي.

وبنفس السياق ففي يد الصين الورقة القوية عندما يتعلق الامر بالغاز. ووقع شي  صفقة مع بوتين لزيادة كميات الغاز الروسي إلى 48 مليار مكعب في العام، بزيادة كبيرة عن 4.1 مليار مكعب عام 2021. وتخطط روسيا  لبناء خط غاز “قوة سيبيريا 2″ والذي يمكن من خلاله تحويل الغاز المنقول إلى أوروبا وبسهولة للصين. ويقول نيكوس تسفوس، المستشار البارز في شؤون الطاقة لرئيس الوزراء اليوناني ” المشكلة هي أن الصين لديها كل الأوراق في المفاوضات”  ومثل “خط قوة سيبيريا الأول، فالصين تتحكم بالرهان. وما لا يعرفه أحد هو إن كانت الصين مستعدة لعقد صفقة. ومن المحتمل عرض روسيا شروطا مغرية، نظرا لحاجتها الماسة. لكن هل ستقبلها الصين؟ فلربما أغرتهم الأسعار أو ربما فكروا مرتين بتوسيع اعتمادهم على روسيا في الوقت الحالي”.

وهناك عامل آخر يلعب في الحسابات الصينية، ويتعلق بحالة الحزم الصينية المتزايدة، ورغبتها بتوسيع مجالها الجيوسياسي، فكلما ظلت روسيا معزولة كلما توسعت الصين. وعلى مدى سنوات طويلة حاول المسؤولون الروس الضغط على روسيا تخفيف من مبيعاتها للهند التي تخوض معها حربا على الحدود. وبقيت الهند في الفترة ما بين 2017- 2022 أكبر مستورد للسلاح الروسي في العالم وتأتي بعدها الصين، وذلك حسب إحصائيات لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام. وحمل الجنود الهنود السلاح الروسي قد لا يعجب الصين، لكنها تجارة مربحة لموسكو. ويقول ألكسندر غابوف، الخبير في العلاقات الروسية- الصينية “قبل الحرب كان المسؤولون الروس يقولون للصين: أنتم لستم في وضع لكي تملو علينا خيارات بيع الأسلحة. ولكنني أعتقد أن الصين ستكون في وضع الإملاء لخمس سنوات مقبلة”.

وبالنسبة للهند فهي تبقي على علاقاتها مفتوحة مع روسيا، ومثل الصين تريد الإستفادة من النفط الرخيص. ولكنها حريصة أيضا على علاقات مع الولايات المتحدة. ويقول  المسؤول السابق في بعثة استراليا بموسكو، بوبو لو، “روسيا أضعفتها الحرب والعقوبات تناسب الصين”. و “ستدفع العقوبات روسيا إلى التحول لشريك صغير وتزيد من اعتمادها  الإقتصادي والإستراتيجي على الصين”. وبالمحصلة فالحرب في أوكرانيا ستجعل الصين في موقع القيادة بالنسبة لروسيا. ويقول جوزيف توريجيان ومؤلف كتاب عن علاقة ستالين وماو بعنوان: “مكانة وتلاعب وإكراه “في الخمسينات من القرن الماضي كانت الحالة بالتاكيد عن دور الصين كشريك صغير. وكان هناك رأي سائد في بيجين وهو أن الإتحاد السوفييتي لا تهمه إلا علاقته مع الغرب على حساب علاقته مع الصين”و “عندما يتعلق الأمر بستالين وماو ، كان ستالين هو المعلم. وعندما مات ستالين تعامل ماو بدونية مع خروشوف وأنه رجل لا يفهم الأيديولوجيا. وعندما قابل دينغ تشياوبينغ غورباتشوف، اعتقد دينغ أن غورباتشوف رجل أحمق”.

 ورغم العلاقة الشخصية القريبة بين شي وبوتين إلا أن لديهما رؤية مختلفة حول موقع بلديها في العالم. وتركيز شي هو تأمين ولاية ثالثة في الحكم، مسلحا برغبة لجعل الصين- السوق المندمج مع الغرب- أكثر ازدهارا وتتفوق في النهاية على الولايات المتحدة لكي تصبح القوة الأولى في العالم. وعقوبات تعني تدمير كل هذا الطموح. أما بوتين فهو في منعرج صعب، وهو مستعد لأخذ أي شيء من الصين، حتى لو عنى أن بلاده أصبحت شريكا صغيرا. وكما يقول غابوف “المشكلة هي أنه يرى النزاع في أوكرانيا أمرا محوريا لبقاء نظامه” وهناك جانب عاطفي في الحرب وهي هزيمة أمريكا التي تساعد معوناتها العسكرية والإستخباراتية للأوكرانيين على قتل الجنود الروس. ومع الصين حتى ولو كان في جيبها فالتركيز سيكون على قتال الولايات المتحدة. ولو لم تتدخل الصين في الشؤون الداخلية ووفرت له المصادر التي يريدها، فهذا ثمن بوتين مستعد لدفعه كي يواصل قتال الأمريكيين.