يمكن تجاوز حقيقة الأخبار المتداولة منذ منتصف الأسبوع حول صحة الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن"، ويمكن أيضاً فهم مكوّنات الشائعة المتدحرجة المتعددة المصادر ودوافعها، فالرئيس في الخامسة والثمانين وطبيعة الضغوط التي يتعرض لها ستترك أثرها، من دون شك، في صحته وأدائه، وليس من سبب مقنع لإخفاء مثل هذا الأمر كما تحاول الجهات الرسمية الفلسطينية بتعثر محزن، بحيث يبدو أن مرض الرئيس، أمد الله في عمره، هو خطأ وطني ينبغي نفيه.
النفي من الأمور الصعبة في بلد يكاد يكون كل شيء فيه خاضعاً للملاحظة والقراءة والتأويل، من نصب بركس استيطاني في حقول قرية قرب الجدار، إلى اغتيال شابة على حاجز، أو هدم غرفة زراعية في الأغوار، أو ردم بئر في قرى الخليل، أو مصادرة كرم... وصولاً إلى مرض الرئيس.
الرّؤساء يمرضون ويموتون
ليس ثمة إهانة في الموت، ولا حاجة لتوصيف الخبر/الشائعة بأكثر مما يحتمل، وليس ثمة مؤامرة هنا. المؤامرة الوحيدة القائمة الآن والتي تسعى على الأرض منذ عقود هي "الاحتلال" بأذرعه الكثيرة؛ من الجيش والمستوطنين والقضاء وشبكة قوانين الأبارتهيد، وفي وجهها الآخر، لا نزال نتحدث عن المؤامرة، "الانقسام" الفلسطيني وتفكك البنى والفوضى والفساد والتسلط وغياب الانتخابات؛ التشريعية والرئاسية، وفي غزة كل أشكال الانتخاب.
الإهانة في أحد أوجهها، وهذا ليس أكثر من مثال، هي الاستقبال الحار لشخص مثل رئيسة البرلمان الأوروبي في رام الله من دون مساءلة، بعد أن لم تترك مديحاً إلا وأزجته للاحتلال ومنظومة الأبارتهيد التي تديره. في طريقها إلى "المقاطعة" مشت من دون حذر بين جثث الفلسطينيين وبيوت عزائهم وعلى حطام بيوتهم وبساتينهم.
أما أمّ الإهانات فهي من دون شك "الانقسام" الذي يشارك فيه الجميع.
مراقبة صحة الرئيس وملاحظة التغيرات التي تطرأ على أدائه وحركته ونطقه، جزء من حياة البلاد وهواجس الناس ومخاوفهم. في لبنان يراقبون الرئيس عون وإطراقته، ويتذكرون تعثره في أحد مؤتمرات القمة العربية، وفي الولايات المتحدة يراقبون صعود الرئيس بايدن على سلّم الطائرة الرئاسية وزاوية انثناء ركبته، في كوريا الشمالية يتتبع المراقبون وزن كيم وانتفاخ وجنتيه وهو يطلق الصواريخ نحو بحر اليابان، وفي موسكو يتتبعون مشية بوتين المشدودة وحركة ذراعه... الناس يراقبون كل شيء مثل كاميرات راجلة، كل شيء، لأن كل شيء سيلقي أثره في حياتهم وخياراتهم، والسؤال حول صحة الرئيس الفلسطيني والبحث في خلافته يبدو هو الحدث القائم والمؤجل دائماً، لا حاجة للمؤامرة ولا ضرورة للنفي.
تتغذى الشائعة على الخوف والغضب واليأس، وهي مكوّنات متوفرة وناشطة في حياة الشعوب المقهورة، والفلسطينيون من ضمنهم، الخوف من الحالة التي سيجد الناس فيها أنفسهم صبيحة رحيل الرئيس لأي سبب من الأسباب، بما فيها رغبته في الراحة والتفرغ لأحفاده، وهو أمر يبدو مستبعداً ولكن يجوز احتسابه من باب التمني.
الخوف من الأسئلة المطروحة بعفوية، لدى الجميع، ما الذي سيحدث؟ في بلد يفتقر إلى الهيئة التشريعية ولا يمتلك ممثلين منتخبين ينطقون باسمه ويوصلون رسائله إلى القيادة منذ سنوات، ويمسك فيها الرئيس قيادة المؤسسات الرئيسية الثلاث، كل شيء تقريباً، رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة الحركة السياسية الأكبر "فتح"، وهو أمر ورثه من الراحل ياسر عرفات وحافظ عليه مثل أمانة لا يجوز التفريط بها، رغم أن كل شيء تغير، بما في ذلك الزمن وإسرائيل.
بلاد ترتجل حياتها كل صباح وتعيشها يوماً بيوم، رواتب الموظفين ونسب الخصم هذه المرة، عدد تصاريح العمل في إسرائيل، عدد الحواجز الاحتلالية وهل الطريق إلى الشمال، أو إلى الجنوب، سالكة من المستوطنين، مؤشر غلاء الأسعار، عدد الشهداء والمعتقلين الليلة الماضية، مساحات الأرض المصادرة، عدد المراسيم التي صدرت أمس والتعيينات التي أُقرّت، حالة الأسرى المضربين عن الطعام هذا الصباح، ورقم يوم الإضراب عن المثول أمام محاكم الاحتلال الذي يخوضه منذ شهور الأسرى الإداريون، عدد الأشخاص الذين غادروا غزة عبر معبر رفح إلى مصر ثم إلى العالم، ساعات دوام الجسر للذاهبين إلى الأردن ثم للعالم... إلى آخر هذه القائمة التي لا تنتهي.
والغضب من أنهم هناك في عربات "النخبة" قد انفصلوا عن القاطرة تماماً، ولكنهم يواصلون الحديث والتنفس وتبادل إلقاء الخطابات وتدبيج التصريحات من دون توقف، لم يعد الطقس كما كان عندما ارتدوا معاطفهم في صباح بعيد يتذكرونه كما لو أنه مستقبلهم، لم يعد هناك أشباح على المقاعد وخيالات على الجدران في القاعة، وبينما يختنقون تحت ملابسهم الثقيلة وربطات العنق، يواصلون الحديث عن الوقت والأشياء القديمة التي انتهى عملها.
واليأس من أنهم لا يتوقفون عن ذلك.