على امتداد الأيام الماضية انشغل الرأي العام الفلسطيني ومعه كثير من المؤسسات الإعلامية ومراكز الأبحاث الإقليمية والدولية بقضية مرض الرئيس محمود عباس، أو وفاته حسب روايات وشائعات أخرى، والخيارات المطروحة لخلافته. وكان لدخول الإعلام الإسرائيلي، المنسجم مع مرجعياته الأمنية، على الخط دور في إطلاق الشائعات وإذكاء المخاوف التي لم تفلح معها البيانات والتصريحات الرسمية المقتضبة في تهدئة الأمور أو توفير الإجابة الشافية عن أسئلة الناس وتهدئة قلقهم، خصوصا وأن النقاش حول القضية تحول إلى سجال حادّ واتهامات متبادلة جوهرها في نظر المدافعين عن السلطة اتهام الخصوم بتلفيق الأنباء أو فبركتها وترديد ما تروج له الدوائر الأمنية الإسرائيلية من جهة، وفي المقابل اتهام السلطة من قبل منتقديها بإخفاء الحقيقة عن الشعب بهدف اتخاذ الترتيبات للمرحلة القادمة.
وإذ نرجو للرئيس السلامة والصحة وطول العمر، ومع التسليم المطلق بأن أخلاقنا العربية والإسلامية، وعاداتنا وتقاليدنا الوطنية الفلسطينية تحظر الشماتة في المرض والموت حتى في حال الخلاف السياسي، ولو وقعت هذه الشماتة فهي أمر فظيع يعيب الشامتين، فإن ما أحاط بقضية مرض الرئيس وخلافته يؤكد مجموعة من الحقائق التي لا تقتصر أهميتها على محيط الرئيس والدوائر السياسية العليا. أولى هذه الحقائق هي أن صحة الرئيس وموضوع خلافته مسألة وطنية بامتياز تهم الشعب الفلسطيني كله في كافة أماكن تواجده، وتؤثر على مستقبل القضية الوطنية الفلسطينية والمنطقة برمتها، وكذلك على الأوضاع الداخلية في المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال.
أما الحقيقة الثانية فهي وجود أزمة حقيقية في آلية اتخاذ القرار، وهي أزمة مرتبطة بصحة النظام السياسي الفلسطيني، وناجمة في الأساس عن فشل مسيرة التسوية وانسداد آفاقها وتنكر الاحتلال لكل الاتفاقات التي وقعها مع منظمة التحرير. ثم تكرّست هذه الأزمة بسبب الانقسام، وتعمقت أكثر فاكثر بسبب تباطؤ الاستجابة للتغيرات المحلية والإقليمية العاصفة ومواصلة العمل بنفس الأدوات والأساليب التي كانت سائدة في بداية عهد السلطة. تتصل هذه الأزمة كذلك بتداخل الأدوار بين هيئات منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات السلطة، وتآكل شرعية هذه المؤسسات بسبب عدم إجراء الانتخابات، وصولا إلى شلل بعضها وانعدام تاثيرها في ضوء هيمنة مؤسسة الرئاسة على كل جوانب الحياة الفلسطينية بما يشمل الجوانب السياسية والأمنية وحتى القضايا الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية.
ومن الحقائق التي تعود لتظهر مع كل أزمة، أن الإعلام الرسمي الصادر عن القيادة ما زال يتعامل مع الجمهور الفلسطيني بنفس أدوات وأساليب الإعلام الرسمي العربي الذي كان سائدا قبل عقود، أي قبل انفجار ثورات الاتصال والمعلومات وولادة الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا النمط من الإعلام لن يتمكن من إقناع المواطن الفلسطيني وإشباع رغبته بالمعرفة وتهدئة مخاوفه، طالما احتفظ بروايته المقننة والمبتسرة والخاضعة لقيود مشددة من الرقابة والحذر، والتي تفتقد للشفافية والمكاشفة، وتهمل وجود مصادر عديدة أخرى للمعلومات، تنهمر أخبارها وتقاريرها على المواطن الفلسطيني من كل حدب وصوب، ما يبقي هذا المواطن نهبا للشائعات.
مرض الرئيس إذن ليس شأنا شخصيا بعائلته الكريمة، ولا هو شأن حزبي لحركة فتح التي يقودها الرئيس، ولا يقتصر تاثيره على "الطبقة السياسية"، ولأنه يمس المستقبل السياسي للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، يصبح من حق الشعب الفصل في أي قضية أو خلاف عبر مؤسساته التمثيلية المنتخبة، وطالما أن هذه المؤسسات غائبة أو مُغَيَّبة أو عاجزة ومشلولة، يصبح البحث عن خيارات وحلول إبداعية مهمة كل من هو حريص على مصلحة الشعب من القوى والمؤسسات والهيئات وحتى الأفراد. وليس من المبالغة في شيء القول أن الدوائر السياسية والأمنية الصديقة والمعادية على السواء مهتمة بموضوع صحة الرئيس وخلافته، ولعلها منهمكة في التحضير للتعامل مع مختلف السيناريوهات المتوقعة. ولذلك من باب أولى أن تنشغل المؤسسات الفلسطينية بالقضية، وأن تسعى إلى توفير أقصى درجات التوافق للتعامل مع كل الاحتمالات وتجنيب شعبنا المزيد من الفرقة والتشرذم والمعاناة.
لا يمكن إلقاء اللوم عن تردي اوضاع المؤسسات القيادية الفلسطينية على الرئيس وحده ولا على ما يسميه البعض "الطبقة السياسية"، فهذه الحالة التي نعيشها هي وليدة المنهجية التي قاد إليها اتفاق أوسلو، والطريقة التي جرت بها إدارة شؤوننا السياسية والاجتماعية، وما نجم عنه من تهميش للمؤسسات وتغليب الحكم الفردي، وابتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من قبل السلطة التي يفترض أنها تابعة للمنظمة ومنبثقة عنها. كل القوى السياسية الفلسطينية تتحمل قسطا من المسؤولية، كل طرف بحسب حجمه وتأثيره، وبحسب مشاركتها أو امتناعها عن المشاركة، وتتحمل المعارضة بمختلف تلاوينها مسؤولية رئيسية عما آلت إليه الأوضاع لأن كلا من هذه القوى آثر العمل وفق برنامجه واستراتيجياته الخاصة من دون أن يسهم في بناء النظام السياسي الموحد بمؤسساته الفاعلة، وفي محطات معينة كثيرة، فإن جميع هذه القوى فضّلت اعتماد منطق المحاصصة والصفقات بدل الصراع الديمقراطي البناء الذي لا يغمض عينيه عن الأخطاء ولا يتعايش معها.
ربما يجري استدعاء المؤسسات الشرعية التمثيلية مثل المجلس الوطني، أو المجلس المركزي ( وهو الخيار المرجح بعد أن احيلت للمركزي صلاحيات المجلس الوطني)، وهذه الطريقة في استدعاء الهيئات فقط عند الحاجة لتمرير شيء ما، وسلبها صلاحياتها النظامية على مدار العام، لا تنطوي على احترام للشعب وإرادته، ولذلك فإن اي خيار تتخذه القيادة يجب أن يكون خيارا توافقيا إلى الحد الأقصى، وجماعيا ما أمكن، ومؤقتا إلى حين العودة للشعب وإجراء الانتخابات الشاملة، فنحن نعيش في عصر لا شرعية فيه من دون انتخابات.