هآرتس: إرث كـوخـافـي الـخـطـيـر

حجم الخط

هآرتس ، بقلم: أرئيل لويطا*

 

كلما اقتربت نهاية ولاية رئيس هيئة الأركان، أفيف كوخافي، تتأزم المشكلة الناتجة من الرؤية التي طورها للقتال بشكل عام، وفي مقابل لبنان بشكل خاص. فكوخافي، الذي أعلن خلال حفل توليه المنصب في بيت الرئيس أنه يسعى لتطوير قدرة الجيش القاتلة، عاد وحذر من تدمير دولة لبنان في المواجهة المقبلة مع الجيش. فقد حذر أنه، في مواجهة كهذه، لن يكتفي الجيش بالتدمير والهدم السريع وغير المسبوق الذي سيلحق بالدولة المنهارة أصلاً، بل سيوقع الكثير من الضحايا اللبنانيين، وضمنهم آلاف المواطنين الأبرياء.

لا نقاش في أن الجيش قادر فعلاً على تحقيق هذه النتيجة، وأن قدرة التدمير والقتل الخاصة به تتطور بسرعة في عهد كوخافي، كما أن الجيش بقيادته يتدرب فعلاً على سيناريوهات حرب كهذه. والسؤال الذي يخطر في بالنا هو: ما الذي يقف وراء هذه التصريحات من جانب قائد هيئة الأركان؟ بل أكثر من ذلك: أين المنطق بالتجهز والمبادرة إلى إخراجها إلى حيز التنفيذ؟

ومن أجل وأد الشك، لا يقلل هذا الانتقاد من عدالة طريقنا في المواجهة المقبلة مع “حزب الله” الذي يستفزنا، والذي يتسلح ويتحضر لمواجهة جبهوية ضدنا، ولا الهدف منه التقليل من خطورة التهديد الذي يشكله “حزب الله” لإسرائيل، وخصوصاً منظومة الصواريخ والقذائف التي يملكها. والأكيد، لا يلغي الافتراض القائل: إن نتيجة صراع كهذا ستعود بضرر كبير جداً على لبنان، على صعيد الضحايا المدنيين والبنى التحتية، حتى لو حاولنا الامتناع من ذلك.

وعلى الرغم من هذا كله، فإن الرؤية التي وضعها رئيس هيئة الأركان ويتدرب عليها، ومهما تكن عادلة، فإنها ليست ذكية، بل أكثر من ذلك، هي رؤية خاطئة بكل الأبعاد الممكنة، سواء على صعيد الردع، أو العمليات، أو الاستراتيجية.

فعلى صعيد الردع، مَنْ الذي يحاول رئيس هيئة الأركان ردعه بهذه التهديدات؟ هل هم مواطنو لبنان المساكين الذين ليس لهم أي تأثير في دولتهم؟ أم الإيرانيون الذين يدفعون “حزب الله” إلى الصراع مع إسرائيل لإسالة دمها واستنفاد الدعم الدولي لها؟ هل هناك مَنْ يستطيع في المحافل الدولية استغلال تهديدات كوخافي بهدف إلزام حزب الله بالهدوء، في وقت ليس هناك مَنْ هو قادر على التأثير في النظام السياسي والترتيبات الاقتصادية في لبنان الغارق بالفوضى؟

ألا يستطيع حسن نصر الله أن يفهم وحده، دون تحذيرات كوخافي، ما الذي سيفعله بلبنان في حال كان هناك مواجهة أُخرى؟ ألا تعمل هذه التحذيرات ضدنا؟ ذلك بأنهم يدفعون بنصر الله إلى تحضير رد على الجيش، كما لمّح وزير الثقافة اللبناني إلى أن اللبنانيين لن يهربوا من الجيش الإسرائيلي تجاه الشمال اللبناني، بل تجاه إسرائيل.

على الصعيد العملياتي، فإن خوض معركة من النوع الذي يريده كوخافي هي وصفة لمعركة متطرفة ستدفع بـ “حزب الله”، بالضرورة، إلى محاولة لجعل إسرائيل تدفع أكبر ثمن ممكن، خلالها وبعدها، وذلك بشكل مباشر عبر استهداف الجبهة الداخلية، وبشكل غير مباشر عبر استغلال الخطوات العسكرية التي سيقوم بها الجيش بهدف استنفاد الشرعية الدولية التي تمنحها الدول الصديقة، أي يهود العالم والدول العربية المعتدلة، والتحريض على قتالها في أوساط كل من سيرى الدمار الذي سيخلّفه الجيش وراءه (عرب إسرائيل، والضفة، وغزة، وتركيا، والعالم).

أمّا على الصعيد الاستراتيجي، فإن تدمير البنية التحتية في لبنان، والتي هي في حالة انهيار أصلاً، سيحولها إلى دولة بلا سيطرة. ومن المتوقع أن يعيدنا هذا إلى الأيام التي نشطت خلالها، بحرية، ميليشيات مسلحة داخل أراضيها. وهذا ما شاهدناه قبل سيطرة حزب الله على لبنان، ومن الأفضل أن نفهم إلى أين سيجرنا هذا الوضع مرة أُخرى.

هناك عدم فهم عميق في أساس رؤية كوخافي لمفهوم الصراعات وشكلها اليوم، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار استخلاصات حرب أوكرانيا، فهناك الجانب الأضعف عسكرياً على جميع الأصعدة، كماً ونوعاً، والذي ينجح في تحقيق إنجازات وجني أثمان من جيش حديث وأكبر منه بكثير. إذ يعوض عن ضعفه العددي والنوعي عبر التحضر المسبق الذي يستغل من خلاله معرفته بالطبيعة، كما يفعّل أسلحة بسيطة وخفيفة، ويستغل استخبارات تكتيكية وصور من المعركة بهدف الحصول على تضامن دولي وبطولة داخلية.

من المتوقع أن يفعل “حزب الله” كل هذا ضدنا، ولن يكتفي بتصعيب المهمة على الجيش وتكبيده الثمن، بل سيحاول مرة أُخرى تحويل الصراع العسكري إلى صراع اجتماعي في جوهره. فنصر الله يعرف جيداً أن الحديث يدور عن صراع طويل ومستمر، وأن التعامل معه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، موجه إلى المجتمع الداخلي، أي مجتمع العدو ومجتمعات دول في الدائرة الثالثة قادرة على التأثير عليك وعلى الأعداء. وكل عقيدة استخدام القوة يشتق من هذا، ويخدم هذا الهدف.

ومن هنا، فإن الرؤية المستندة إلى القوة والسطحية لرئيس هيئة الأركان هي أسيرة الإنجازات العملياتية، لكنها أيضاً وصفة لهزيمة استراتيجية ثقيلة في مواجهة كهذه. ومن شأن فائض التصريحات هذا أن يُستعمل في المستقبل ويكون الأساس لتقرير غولدستون جديد، وللوائح اتهام في العالم بحق الضباط والجنود الذين يطبقون الأوامر. كما يجب استيعاب حقيقة أنه حتى وسائل الإعلام الصديقة سترفض تفسيراتنا وتتهمنا بهدر الدم بشكل مقصود.

على المستوى السياسي في إسرائيل، ومنذ العام 2006، وحتى لدى مَنْ سبقوا كوخافي، ثمة تفكير في أنه يجب أن يقوم الجيش بكل ما يستطيع، لا لمنع حرب في لبنان فحسب (كما تزوُّد حزب الله بأسلحة متطورة تجهيزاً لها)، بل أيضاً لتقليص المواجهة، إن وقعت، أكثر ما يمكن، قبل أن ننجر إلى مواجهة سندمر ونقتل فيها، لكننا سنخسر في الحساب النهائي.

صحيح أنه من المهم تحضير الجمهور داخلياً وفي العالم للثمن الذي سنجنيه من هذه المواجهة في لبنان، لكن يجب أن يحصل هذا في موازاة جهود قيادية ودعائية تقوم على تقليل الضرر بالبنى التحتية والأبرياء لدى الطرفين. وهذا ضروري من الجانبين الأخلاقي والاستراتيجي.

يجب ألاّ يتم جرنا بشكل مضلل وراء مهرجان نهاية ولاية قائد هيئة الأركان، والتي من خلالها يتم استعراض التحديث المتوقع للجيش في أيلول. ذلك بأنه من الأفضل أن يتم استغلال التحديث العملياتي والتكنولوجي والتفوق الاستخباراتي بهدف وضع رؤية جديدة للمواجهة يكون في أساسها التعامل مع حرب اجتماعية متعددة الجبهات. ومن المستبعد أن تتم هذه التغييرات في فترة كوخافي، لكن يجب أن نتأمل أن تحدث مع خليفته، أياً يكن.

* باحث في معهد كارنيغي.