برحيل غريب عسقلاني خسرت الثقافة الفلسطينية نموذجاً حقيقياً للكاتب الملتزم المجبول بهموم شعبه والمشغول بتفاصيل الألم الذي يعيشه. غريب الذي وُلد في أتون النكبة واختلطت صيحات خروجه للدنيا بأزيز رصاص العصابات الصهيونية وهي تروّع الأبرياء ومدافعها وهي تهدم البيوت على ساكنيها، ظل وفياً طوال حياته، التي رافقت سني النكبة كتفاً لكتف، للوجع الفلسطيني، وحاول سواء عبر كتاباته القصصية او الروائية أن يجسد ماذا يعني أن تكون فلسطينياً مهجراً من بيتك وتعيش في مخيم للاجئين، أن تكون «مطوّقاً» من كل اتجاه ولا تستطيع إلا أن تحلم فيختلط عليك الحلم والكابوس والواقع. من هنا كانت الرمزية العالية في الكثير من كتابات غريب عسقلاني خاصة القصصية.
كان غريب علَماً في المشهد الثقافي الفلسطيني، خاصة في غزة. يصعب الحديث عن الأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة بعد العام 1967 دون التوقف طويلاً أمام كتابات غريب عسقلاني أو بالأحرى أمام «حالة» غريب. فالرجل من ذلك الجيل الذي حمل على عاتقه مشقة الكتابة في زمن صعب. لم تكن الكتابة مهمةً نبيلة أو تفريغاً نفسياً أو رحلةَ بحث فكريةً أو ترفاً زائداً، كانت الكتابة بالنسبة لذلك الجيل معركةً يجب فيها ومن خلالها نقل الواقع الفلسطيني الذي تم استلابُه وعزله عن العالم. لذلك كانت تواجه الكلمة والقصة القصيرة بالاعتقال والسجن والتعذيب. كان ذلك الجيل يحمل قصصَه مثلما يحمل مسلحٌ رصاصة، وكان يتم تناقل تلك القصص بشغف ولهفة لأنها كانت تشكل نافذة على عالم مغلق. فبعد احتلال قطاع غزة والضفة الغربية اضطر الكثير من الكُتاب لترك الأرض المحتلة بسبب مضايقات الاحتلال. وكان ثمة أسماء لامعة في غزة في ذلك الوقت ربما أشهرها معين بسيسو وهارون هاشم رشيد ومحمد حسيب القاضي وغيرهم. وخدمت الصحافة النشطة في غزة كما خدمت الحياة الثقافية بشكل عام. في غزة قبل العام 1967 كان ثمة اتحاد لدور السينما مثلاً. مر وقت قبل أن يعاد بعث الحياة الثقافية في القطاع في منتصف السبعينات وتعود الحيوية تدريجياً للمشهد. كان غريب برفقة مجموعة هامة من الشعراء والكتاب والباحثين في طليعة من أخذوا على عاتقهم بعث هذه الثقافة في القطاع.
رحل الكثيرون من رواد هذا الجيل ولكن ظلت أعمالهم القصصية والشعرية والمسرحية تشير إلى قوة الدفع التي جابهوا فيها حالة التعتيم التي فرضها الاحتلال على القطاع. شمل هذا الجيل كوكبة من رفاق غريب أمثال زكي العيلة وعبد الحميد طقش ومحمد أيوب وعثمان الجحجوح وسعيد فلفل وعشرات المبدعين، وعشرات آخرين أطال الله في أعمارهم. هذا الجيل الذي رأى في الكتابة جزءاً من المعركة بالمعنى الحرفي وليس المجازي، وكانت كتابة قصة من أحدهم يُحتفى بها بما يليق بانتصار جديد. وكانت تتم ملاحقة القصة والكلمة وصاحبها، ومع ذلك استمر نهر الأدب والعطاء ولم يتوقف.
وكانت تلك المهمة العظيمة التي حملها هذا الجيل على عاتقه. فرغم ما تعرض له شعبنا من احتلال ونزوح وقبل ذلك من نكبة وتشريد وتدمير وسرقة البلاد، إلا أن نهر الكتابة الفلسطينية لم يجف، وظلت النصوص تنتشر في قاعه وفوق زبد مائه بكثافة دون توقف. لقد تعرض الأدب الفلسطيني لانتكاسة رافقت النكبة بعد أن شهدت الحياة الثقافية قبل النكبة نهضة كبيرة تمثلت بظهور السينما والرواية والمسرح والقصة وحضور الصحافة والنقد الأدبي والموسيقى والإذاعات. كل ذلك تعرض لضربة شديدة مع تشرد الكُتاب والفنانين وسرقة البلاد. مر وقت قبل أن يستطيع الأدب الفلسطيني أن يلملم شتاته ويواصل السير، وظهرت الكتابات الرائعة لغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وجبرا وإميل حبيبي ومعين بسيسو.
كما أسلفت، فإن وضعاً شبيهاً تكرر بعد نكسة حزيران، حيث استعاد المشهدُ الثقافي حيويّته بعد سنوات، وظهرت أسماء نجحت في فرض نفسها على المشهد الثقافي، وحققت حضوراً فلسطينياً وعربياً مميزين. من هذه الأسماء كان غريب عسقلاني الذي وُلد باسمٍ آخر ولكنَّ ظروف الكتابة والتشديد التي كان يفرضها الاحتلال جعلته يختار اسماً رمزياً مختلفاً. ومع هذا فقد اختار إبراهيم الزنط اسماً يعبر عن محنة الفلسطيني الحقيقية المتعلقة بالمكان وبالهوية، فهو المولود في مجدل عسقلان اختار ان ينسبَ نفسه للمكان، واختار التأكيد على الغربة القهرية عن هذا المكان المرغوب.
وبنفس القدر، فقد عكست الظروف نفسها على تقنيات الكتابة، حيث الميل الواضح للنصوص القصيرة والتركيز أكثر على كتابة القصة القصيرة، حتى بات مألوفاً أن يكون كلُ كُتّاب غزة هم كُتاب قصة قصيرة، وصار يُقال غزة تصدِّر البرتقال والقصة القصيرة. كما مالت تلك الكتابات للرمزية واللغة الشعرية من أجل التهرُّب من مقص الرقيب وملاحقته. حتى الروايات التي صدرت في أواخر السبعينات ظهرت على شكل روايات قصيرة أو قصص طويلة. من ذلك روايات غريب وعبد الله تايه اللذين كان لهما دورُ السبق في الانتقال من القصة إلى الرواية. الكثير من هذه الملاحظات باتت مألوفة الآن بعد مرور نصف قرن على تلك اللحظة التي بدأ يظهر فيها هذا الأدب، ولكن استذكارها مهم ونحن نتأمل رحيل أبرز رموزها.
يبدو هذا الكلام مهماً ونحن نتحدث عن الحفاظ على السردية الوطنية وإعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية التي تعنى بالكيفية التي نفهم فيها ما جرى في البلاد. لقد شكَّل أدب الأرض المحتلة (وأنا هنا أستعير المصطلح النقدي الشائع) مرحلة مهمة وعلامة فارقة في تطوُّر الأدب الفلسطيني أو بالأحرى في علامة مميزة في مسيرة هذا الأدب من جهة اللحظة التاريخية التي ظهر فيها ودوره الكفاحي والفني في تسجيل الحياة في البلاد ونضال شعبها. لقد أثمر هذا الأدب نصوصاً هامة تُضاف إلى عيون الأدب الفلسطيني لا بدَّ من إعادة تسليط الضوء عليها من أجل تذكُّر الأجيال القادمة كيف يكون الأدب معركة.