حتى النفس الأخير ظلَّ الأستاذ غريب العسقلاني يعيش غرفته الخاصة به، لم ينس أبداً مدينته الحبيبة عسقلان التي هجر منها عام النكبة، وقرر منذ اليوم الأول الذي وضع قدمه في المخيم، أن يكون "غريب العسقلاني"، وأن ينشر اسمه عنه ما دام لاجئاً، لا هوية له، لا وطن له، فقد ألقى بإبراهيم عبد الجبار الزنط على شاطئ عسقلان وتركه هناك حتى العودة.
قرر أن يكون ناطقاً باسم المخيم، باسم الفقراء والمستضعفين، في ذلك نقل ضيق المخيم وأزقته الضيقة إلى رحابة هذا العالم الظالم الذي أغمض عينيه عن جريمة ارتكبها شذاذ الاَفاق ضد شعبه ووطنه.
فكانت بدايته القصصية كتابة اَلام ووجع شعبه بشكل عام، والمخيم بشكل خاص، حيث بدا المخيم واللجوء واضحين في أدب الراحل الكبير غريب العسقلاني، والذي أصبح فيما بعد أحد أعمدة القصة القصيرة في الأدب الفلسطيني. فكانت قصة "الطوق والوردة البيضاء" و"على الرصيف"، تعبير حقيقي عن معاناة الشعب باسره، كان له وطن وأصبح شعباً لاجئاً بلا مأوى.
أكاد أجزم أن هناك ثلة يعرفون الأستاذ غريب عسقلاني باسمه الحقيقي ابراهيم. عندما هاتفته لأول مرة سألته ماذا تحب أن أناديك يا والدي؟، يومها ضحك وقال: الذي تريد، لكنني شعرت أنه يفضل ذاك الغريب العسقلاني الذي بدأت معاناته على شاطئ الغربة.
حاول الاحتلال مراراً وتكراراً أن يعتقل قصص الشاعر غريب عسقلاني، إلا أن هذا النوع من الأدب الثوري انتشر أكثر وأكثر نكاية في الاحتلال، الذي يحارب الكلمة قبل القنبلة، وظلت كلمات "غريب" تحلق في فضاءات الوطن والشتات حتى وجدت نفسها تتسكع في شوارع أوروبا والعالم بأسره، ... ترفض الاعتقال والقوقعة في منطقة القهر والظلم وأبت أن تموت، لا تقبل اللجوء دون الثورة. فترجمت مؤلفاته إلى لغات عدة على مستوى العالم بأسره.
الكلام يدور في حق الأديب الكبير غريب عسقلاني ذاك الكاتب الذي أفنى عمره وأدبه في خدمة قضية شعبه. فقد اعتقد الكثيرون أن عسقلاني بدأ مسيرته يسارياً نتيجة كتاباته البليغة عن الفقراء والمستضعفين والعمال والفلاحين وعن الصراع الطبقي في نصوصه الأدبية، وقد كان مدرسة في حد ذاته.
إن أردت أن تكتب عن غريب عسقلاني الانسان سوف تكتب المجلدات، وإن أردت أن تكتب عن غريب عسقلاني المهندس الزراعي ستجد ما تكتب، وإن أردت أن تكتب عن غريب عسقلاني الشاعر ستكتب الكثير، لأن لغته الشعرية في نصوصه من الصعب إدراكها وفهمها، رغم أنه لم يكتب الشعر مطلقاً.
عندما أصدرت ديواني الأول أرسلت له نسخة هدية لأديب كبير ووالد عزيز. قال لي يومها: "أنا لا أفهم في الشعر لكنني سأقول لك رأيي كقارئ لا اكثر".
وعندما قرأت له "العزف على الوتر الثامن"، "مذاق النوم" "غناء القمر البعيد"، "في المرايا"، وكلها صدرت عن مكتبة سمير منصور للنشر والتوزيع ،وجدت الأديب القاص غريب العسقلاني شاعراً كبيراً عظيماً فوجئت بشاعريته ولغته الشعرية التي ترقص فوق وهج حروفه وشمس كلماته.
أحد النقاد قال لي إن "غريب" ينسج كلمات نفسه، ويغزل الحرف غزلاً، يوتر الجملة كي تحدث الصدمة الأولى والأخيرة المطلوبة واعتقد انه محق في ذلك.
الكتابة عن قامة أدبية صعبة جداً ومسؤولية كبيرة جداً وأنا هنا أرثي والداً عزيزاً على قلبي ولا أكتب مقالاً نقدياً أو دراسة عن ابداعاته، فوجئت برحيله المفاجئ كما فوجئنا برحيل الكثيرين من أدبائنا الكرام منذ بداية هذا العام، ولكن البحث والدراسة في أدب الراحل الكبير غريب عسقلاني مشروع كبير يجب أن يكون محط أنظار كل الكتاب والنقاد الذين يشتغلون في الأدب الفلسطيني.
في اَخر محادثة لنا ويبدو أن الراحل الكبير قد أحس بدنو أجله وأثناء حديثنا عن الكتابة الأدبية والبحث العملي المنهجي في الأدب الفلسطيني، قال لي: إن أردت أن تكتب عن غريب العسقلاني يوماً، فاكتب عن الأسطورة في الأدب غريب عسقلاني، ووعدته بذلك فور دخول كافة مؤلفاته عندي ... ودعته وشعور غريب ينتابني.
لقد ترجل الكاتب الكبير غريب عسقلاني عن صهوة الأدب، بعد رحيله سوف يذكره الكتاب والمفكرون، سينعاه المسؤولون الكبار، ويقلدونه الأوسمة بعد موته، كما جرت العادة في بلانا العربية فنحن لا نكرم عظماءنا وأدباءنا وكتابنا وعلماءنا لا نذكرهم ولا حتى في محادثة هاتفية أو زيارة عابرة إلا بعد موتهم ورحيلهم.
الرحمة لك والدي الكبير والعزيز أبا سامر.. السلام عليك يوم رحلت ويوم تبعث حياً ويوم تبقى فينا خالداً