لا غرابة أبداً، أن يأتي التحقيق الأميركي في اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة على النحو الذي أعلنته الخارجية الأميركية بعد أن تسلّم فريقها الأمني المقذوف، الذي اخترق جمجمة شيرين والخوذة التي كانت ترتديها.
بالعكس من ذلك، إن من يعرف ويعترف بحقائق السياسة الأميركية، خصوصاً فيما يتصل بفلسطين وحقوقها، سيعرف مسبقاً أن مخرجات التحقيق ستشكل استمراراً وتواصلاً مع سياسة الانحياز الكامل والواعي لإسرائيل.
تبددت كل التصريحات التي صدرت عن الإدارة الأميركية ووزارة خارجيتها التي كانت على مدار الوقت تدعو لإجراء تحقيق شامل وعاجل وجدّي في أسباب وظروف اغتيال شيرين ومحاسبة المسؤول عن ذلك.
أتساءل: لو أن شيرين التي تحمل الجنسية الأميركية، كانت تحمل جنسية أخرى غير جنسيتها الفلسطينية، فهل كانت الإدارة الأميركية ستتصرف بالطريقة ذاتها التي تصرفت بها إزاء ملف اغتيال شيرين.
هل يتذكر العالم بأسره كيف تعاملت ولا تزال الإدارات الأميركية الحالية والسابقة، في ملف اغتيال خاشقجي، لأنه يحمل الجنسية الأميركية، وكيف أدّى ذلك إلى تأزيم العلاقات بينها وبين السعودية؟
الدولة التي تزعم بأنها راعية وحامية حقوق الإنسان عالمياً وفي كثير من الأحيان تتدخل بفظاظة في الشؤون الداخلية لدول أخرى، وقد يصل الأمر إلى حد خوض حروب بذريعة حماية حقوق الإنسان، هذه الدولة لا تخجل حين يتعلق الأمر بإسرائيل، التي ترتكب جرائم حرب وليس فقط انتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني.
ندرك أن توقيت التحقيق الذي أجراه فريق أمني أميركي في السفارة التي تقع في القدس، له علاقة بزيارة الرئيس بايدن المرتقبة في منتصف هذا الشهر، تسعى الإدارة الأميركية بالتنسيق الكامل مع الحكومة الإسرائيلية إلى طيّ هذا الملف حتى لا يواجه الرئيس بايدن، الأسئلة الفلسطينية، بشأن الملف أو أن يكون الملف ورقة بيد الفلسطينيين لتعزيز مطالباتهم السياسية وغير السياسية من الولايات المتحدة.
وبرأيي ليست القضية، إن كان على السلطة تسليم المقذوف للجانب الأميركي، أم انه كان عليها أن ترفض، حتى لو كان التقدير السياسي بأن الإدارة الأميركية، ليست في وارد إنصاف الفلسطينيين أو الانحياز للعدالة.
السلطة الفلسطينية لم تتخذ موقفاً بتطبيع العلاقة أو تجميدها مع الولايات المتحدة، فهي لم تقطع الأمل في جدوى السياسية الأميركية بل إنها لا تزال تسعى لتحسين هذه العلاقة، ومطالبة إدارة بايدن بتنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها إزاء عديد القضايا.
ولا تزال السلطة والسياسة الرسمية، تراهن على دور أميركي مختلف إزاء ملف العملية السلمية، خصوصاً أن هذه الإدارة لا تتوقف عن الإعلان بأنها ملتزمة بـ»حل الدولتين».
وبالإضافة إلى ذلك، فإذا كان الفلسطينيون لا يمانعون، بل يتطلعون لأن تقوم الإدارة الأميركية بإجراء تحقيق على اعتبار جنسية شيرين فإنهم كانوا سيمكنون الفريق الأميركي من الوصول إلى الأدلة المتوفرة لديهم.
المشكلة الآن هي أن رواية الخارجية الأميركية بعد التحقيق تكاد تتطابق مع الرواية والذرائع الإسرائيلية.
كلاهما لا يستبعد أن يكون مصدر إطلاق النار من طرف موقع جنود إسرائيليين، ولكن ذلك لا يقود إلى نتائج أكيدة وحاسمة بشأن مسؤولية إسرائيل عن الجريمة.
كلاهما يتحدث عن أن المقذوف قد أصيب بتشوهات لا تسمح بتحديد البندقية التي تم استخدامها في إطلاق النار، ولكن رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست رام بن براك، يشكك فيما إذا كانت الرصاصة التي تم تسليمها للجانب الأميركي هي الرصاصة الحقيقية.
والمهم أن الطرفين يعبران عن الأسف لمقتل شيرين، ويزعمان بأن مقتلها لم يكن متعمّداً.
بصراحة، نتائج التحقيق الأميركي تشير إلى فضيحة كاملة الأركان، ولا يمكن تبريرها بأي حال، بل تشكل دليلاً إضافياً، على الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل، والمسؤولية الأميركية عن استمرار إسرائيل في ارتكاب المزيد من الجرائم، وان الولايات المتحدة لا تزال تشكل جدار صد لكل محاولات إنزال العقاب، بمن يرتكبون هذه الجرائم.
فريق التحقيق الأميركي، الذي لم يستغرق عمله بضع ساعات حتى خرج بما أعلنته الخارجية الأميركية، يبدو أنه استلم الذرائع الإسرائيلية، وأعاد صياغتها باللغة الإنكليزية مع بعض التغييرات الطفيفة لا أكثر ولا أقل.
قد لا يكون ثمة ما هو جديد في أن توصف الولايات المتحدة بالانحياز لإسرائيل، لو أنه لم تسبق تحقيق الفريق الرسمي الأميركي، تحقيقات أجريت، وتم الإعلان عنها من قبل مؤسسات أميركية وإسرائيلية، وعربية وازنة، قامت بمعاينة المكان والأدلة، وصرفت أياماً في الفحص، والاستماع للشهود.
شبكة «الجزيرة» القطرية، قامت بتحقيقات مهنية واسعة، وخلصت إلى نتائج حاسمة بأن إسرائيل تتحمّل المسؤولية كاملة، وبوضوحٍ شديد عن جريمة الاغتيال.
شبكة «سي إن إن» الأميركية، وصحيفة «واشنطن بوست»، كلاهما أجرت تحقيقات مهنية، وخلصت إلى النتائج ذاتها التي وصل إليها تحقيق «الجزيرة».
منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية هي الأخرى أجرت تحقيقاتها الخاصة، وأعلنت بعد نتائج التحقيق الأميركي أن جميع التحقيقات المنشورة خلصت إلى أن إسرائيل مسؤولة عن مقتل الصحافية شيرين.
تتساءل «بتسيلم» عن الأساس الذي اعتمدته الخارجية الأميركية حين اعتبرت أن قتل شيرين كان نتيجة ظروف مأساوية وليس كجريمة يجب محاسبة المسؤولين عنها.
الحقيقة أن ملف اغتيال شيرين واحد من عشرات الملفات التي تؤكد سياسة ثابتة لدى دولة الاحتلال العنصري، في التعامل مع قيادات ونشطاء فلسطينيين، أم أن علينا التذكير باغتيال ياسر عرفات، وأبو جهاد، وأحمد ياسين، وعشرات القيادات قبلهم وبعدهم، وإزاء كل ذلك تواصل إسرائيل الإنكار، وتواصل الإدارات الأميركية التواطؤ والصمت وحماية إسرائيل في المحافل الدولية. المشكلة عند الولايات المتحدة، ولكن، أيضاً، عند كل من يراهن على أن تسعى وراء الإنصاف والعدل.