إلى أمي صفية...بعد غياب 28 عاما...أكرر ما قلت لك!

1638599527-781-3.jpg
حجم الخط

 كتب حسن عصفور

 لم أجد كلاما في صباح عيد الأضحى أخاطب به صفية بنت عبدالرحمن أبو عنزة، أضيفه لما كتبت لها بعدما غابت عني وعنا بعد مرور 25 عاما...وأعيده بعد مرور 28 عاما...امرأه من ذهب وإنسانة مختلفة ...دوما معي كما كنت طفلها الصغير آخر عنقودها...يا صفية كم أنت حاضرة في تفاصيل الحياة...لروحك حيث أنت سلاما ورحمة ورضاك حارسي الأبدي...

النص القديم يقرأ مع مراعاة فارق رقم السنوات...

هي المرة الأولى منذ أن قررت الذهاب بعيدة عني، سأكتب لها وعنها، أمي صفية، رغم كل ما لها بي من أثر إنساني وشخصي قد يفوق ما كان لغيري دون تمييز بما تقدمه الأم، أي أم، لكن هذه المرأة الأمية، التي وجدت نفسها فجأة في صباها ارملة وأسرة من 6 أفراد أصغرهم عمره عام (هو أنا)، تقلص عددهم بعد سنة من رحيل عامود الخيمة، كما كانت تحب أن تسمى والدنا محمد بن جازية، بفقدان طفلة بعد ان دهستها سيارة، حادثين يهدان الجسد والروح في أقل من عام...

لكنها صفية، التي اختارت مستقبلا لتحتضن من لها (ثلاث بنات وولدين)، ذهبت لتعمل كي تصنع حياة بما تستطيع، وكان لها أن حققت ما قد يفوق ما تمنته لأسرتها رغم بعض من اخفاقات لبعض منها.

في فبراير عام 1994، كنت أحد المشاركين في الوفد الفلسطيني لمفاوضات طابا بعد توقيع اتفاق أوسلو، طابا التي لا تبعد كثيرا عن غزة، جاءني اتصال ان والدتي تعيش في وضع قد لا تستطيع أن تقاومه، وهي التي كسرت من الصعاب، وتحدت بجبروت فريد ما واجهها في طريق حياتها، لخص الاتصال أن "أمك تتمنى أن تراك قبل غيابها الطويل".

كانت لحظات قاسية جدا، حملت كل أشكال التناقض الإنساني، ألا تستحق هذه المرأة الفولاذية منك "مغامرة ما"، الا تستحق وهي التي لها كل الفضل ولا غيرها فيما انت فيه، هي من منحك ثقة وحبا، عشقت فيها الحياة قبل الانسان، خاصة وان بعض الأصدقاء في الوفد الفلسطيني أخبروا رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض "أمنون شاحاك" بما كان، فعرض ان يسهلوا ذهابي ضمن ما يعرف بدخول "حالات إنسانية".

عرض اصابني بهزة وجدانية لم اعرفها فيما كان قبلا من حياتي، فرصة لأذهب لها أقبل قدميها التي عانت وهي تبحث لنا عما يمنحنا كرما في الحياة، أحضنها كما كنت دوما أنام بحضنها، تخيلتها وهي تستقبلني بفرح أخير لتقول لي يا بني استودعك...تخيلتها بتلك الفرحة التي اصابتنا يوم اللقاء بعد غياب في قبرص عام 1984.

كانت لحظات لم تطل فكان قراري أن أرفض عرض الفرصة الأخيرة لأقول لها يا أمي سلاما...رفضت عرضا ما كان يثير ضجة لو وافقت، كان ردي لهم أن أمي من زرع بي قيم الكرامة والكبرياء، ستغضب مني لو وافقت، وأنا من لم يغضبها يوما رغم أنها كثيرا ما زعلت من بعض "عنادي"...

رفضت وايام وكان الخبر...ماتت أمك ...ماتت صفية، واليوم بعد 25 عاما أعترف أنها اللحظات الأقسى لي في حياتي، رفضت ان اعترف بما كان فقدانها أثرا، هربت من "ضعفي الإنساني" الى "غطاء قوة زائف"، رفضت تقبل عزاء كما هي العادة، وهو ما اغضب يومها الشهيد الخالد ياسر عرفات، رفضت أن يشاركني أحد رحيلها...لأيام اخترت ان اذهب الى البحر في تونس عله يربطني بروحها أكثر...رحلت صفية يا حسن!

وأعترف، انه حتى يومنا هذا أنني ابكي بصمت عندما أذكرها او يتم ذكرها...ابكي لأني أخفيت البكاء امام كل الناس يوم أن غادرتني ورحلت...

يا صفية، بعد 25 عاما أقول لك كم أنا فخور بأني تربيتك...كم أعتز أن امرأة أمية صنعت مني إنسانا لم يحن راسه يوما لغير حق...كم انا فخور بأني ابنك...لروحك يا امي سلاما وحبا ومحبة...أطلب منك سماحا بان قلمي خانني في ان اكتب لك!