عندما تزور بيت أمير الشعراء أحمد شوقي "كرمة إبن هانىء" يسترعي إنتباهك الصور المعلقة على جدرانه لبناته الثلاث، والحقيقة أنها لإبنيه وإبنته الوحيدة، يختلط عليك الأمر لأن الولدين تركوا شعرهم وإرتديا ملابس وحلي الفتيات كما فعلت شقيقتهم ليس تماشياً معها بل تنفيذاً لتعليمات والدهم، كان يخاف من الحسد على أبنائه من الذكور ويبدو أن ورث هذا الخوف من والدته ذات الأصول التركية، حيث لجأ الأتراك في ذلك الوقت لعادة إخفاء الأطفال الذكور خوفاً من الحسد، لم تتمكن ثقافة أمير الشعراء من فك شفرة فوبيا الحسد لديه ولم تحرره من نبوءة أحد الأدباء بموته بعد حافظ إبراهيم، وسيطرت فوبيا السفر بالطائرة على الأديب نجيب محفوظ حيث انتدب إبنتيه عوضاً عنه لتسلم جائزة نوبل للأدب تفادياً لركوبه الطائرة، ومن قبله إحتسب الموسيقار محمد عبد الوهاب نفسه في عداد الموتى يوم أجبره الرئيس جمال عبد الناصر للإشراف على الحفل الغنائي بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا ولم يكن الوقت حينها يسعفه للذهاب إلى سوريا بالسفينة كما كان يتمنى.
وهناك من البشر من لديه فوبيا من المناطق المرتفعة "والعبد الفقير منهم" والبعض من المناطق المغلقة وآخرين من إختلاطه بالمجتمع، والفوبيا "الرهاب" يتم تعريفها بالخوف الغير عقلاني تجاه حالة معينة أو نشاط ما أو كائن بغض النظر عن طبيعته، وبالتالي يمكن ربطها بالكثير من الأمور التي لا تخطر على بال، لكن المثير هو أن الفوبيا دخلت معترك السياسة من أوسع أبوابها وبمسميات مختلفة، كأن ترتدي ثوب قوة الردع التي تبث بها الدول الرعب والفزع في المحيطين بها، أو أن تنصهر في مفهوم الدولة العظمى التي لا يشق لها غبار، وقد تذهب الفوبيا إلى فكر معين أو عقيدة ما كما دخل مصطلح الاسلاموفوبيا إلي القاموس السياسي، ويمكن لنا القول أن الفوبيا لم تعد تقتصر على الأشياء الملموسة بل تشكل البعض منها في قوالب هلامية أنتجتها الانتلجنسيا في مراكز بحوث تمولها أجهزة مخابراتية، ما نود أن نصل إليه أن الفوبيا لا ترتبط بثقافة المرء ومعرفته وقدرته على تحليل ما يحيط به، بل تكون نتاج تفاعل حسي أو فكري يقودنا للاستسلام لنتيجته.
ما يعنينا هنا فوبيا أمريكا التي ضربت جذورها في منطقتنا العربية وارتعدت منها مفاصل الزعماء العرب، والغريب أنها وصلت بسطوتها إلى من هم في سدة الحكم ومن هم في خندق المعارضة، حتى تزاحم الليبراليون والاسلاميون عند بوابات سفاراتها سعياً لطلب ودها والاحتماء بها، وبات الكثير على قناعة بأن حل قضايا العرب قاطبة بما فيها القضية الفلسطينية هي ملك يمين أمريكا، وتعاطى الكثير من الزعماء العرب ليس بإعتبار ذلك فوبيا أمريكا بل حقيقة راسخة، وما يهمنا في هذا المقام ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فعلى مدار السنوات السابقة وقعت القيادة الفلسطينية أسيرة فوبيا أمريكا، وعليها أن تبذل الغالي والنفيس كي تستحوذ على رضاها ولا تغضب منها على اعتبار أن غضبها من شأنه أن يطيح بها ويتم استبدالها بمن هو أكثر وداً لها.
تحت تأثير فوبيا أمريكا رمت القيادة الفلسطينية بكل أوراقها في السلة الأمريكية، ولم تعمل على الاستثمار في قدرة شعبها وتضحياته على صناعة الفارق، وتراجعت في علاقاتها مع محيطها العربي على قاعدة أن الدول العربية لا تغير واقعاً تريده أمريكا وأنها تنفذ ما يطلبه البيت الأبيض منها، ولم تغير تجاربنا المريرة الطويلة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة من سلوكنا حيالها بأي شيء، وان كنا ندرك قدرة أمريكا في اجبار إسرائيل على احترام الشرعية الدولية والزامها بالانصياع لإرادة المجتمع الدولي المبنية على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران وأنها تستطيع أن تفعل ذلك، إلا أننا نعرف في الوقت ذاته أن المسيحية الصهيونية المتحكمة في القرار الأمريكي تقوم على عقيدة الدفاع عن إسرائيل وتكريس حضورها كمبدأ عقائدي أكثر منه سياسي وتحالفي.
كي نضع القاطرة الفلسطينية على مسارها الصحيح لا بد أن نتخلص أولا من فوبيا أمريكا، ولا يعني ذلك أن نتجاهل الدور الأمريكي ونقلل من شأنه بل أن نتحرر من سطوته، وأن نستعيد إيماننا بقدرة شعبنا ونعزز من صموده فعلاً وليس قولاً، وأن نعود من جديد لعمقنا العربي والإسلامي بكل ما فيهما من ضعف ووهن، ومن يعتقد أن وجوده مرهون برضا أمريكا عنه فهو واهم والتجربة في واقعنا العربي خير دليل، ومن يتصور أن رضا أمريكا عنه يجلب الحسد له وأن الطريق إلى القيادة يبدأ من ردهات البيت الأبيض فهو أيضاً واهم ويعاني من مرض يفصله عن الواقع اسمه فوبيا أمريكا.