التوازن المفقود في النظرة إلى الحرب الأوكرانية

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

الغائب والمُغيَّب في قراءة المشهد الدولي بعد الحرب الأوكرانية، أو في ضوء ما أفرزته حتى الآن هو ما أُسمّيه "التوازن الإيجابي" الجديد.
ماذا يعني التوازن الإيجابي الذي سينتج عن هذه الحرب؟ أو الذي بات منتوجاً في طور الإنضاج الكامل؟
قيمة هذه الحرب بالعلاقة مع النظام الدولي الذي يتمّ تبلوره مع كل ساعة، وكل يوم من أيام هذه الحرب بالذات ــ وليس كل حرب ــ هي أن الخلافات والاختلافات على أسبابها، وخلفية نشوبها، والأهداف الخاصة بها من قبل الأطراف المتحاربة على الأرض الأوكرانية لن تعود لها نفس الأهمية التي تحتلها، اليوم، أو التي كانت تحتلها حتى الآن، وسيصبح التركيز على نتائجها ــ وليس على أسباب اندلاعها ــ هو ما سيتم الاختلاف أو الخلاف بشأنه، وبصورة مباشرة وواقعية، وليس بصورة نظرية، أو مبدئية، أو مجرّدة.
أقصد، سنكون أمام معطيات ووقائع قد تصل إلى درجة الحقائق، وحينها تصبح العودة إلى الأسباب والدوافع ليس أكثر من "وجدانيات" سياسية أو فكرية ثقافية.
فلسطينياً وعربياً، أيضاً، يلاحظ ــ دون الاستناد إلى معطيات إحصائية مؤكدة ــ أغلبية، وربما تكون أغلبية كبيرة تأييداً لروسيا كما يلاحظ بعض "الحماسة"، والحماسة الزائدة أحياناً في هذا التأييد، في حين أن هناك أقلّية ليست صغيرة أو بسيطة ــ على ما يبدو ــ تقف ضد هذه الحرب من موقع إدانتها، والوقوف ضدها، وتحميل روسيا المسؤولية المباشرة عنها، ووصفها للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بالغزو والاجتياح!
وفي حين نلاحظ أن الغالبية من الأغلبية لا تقف أو تؤيد روسيا من مواقع فكرية أو أيديولوجية، وإنما من مواقع "سياسية"، وخصوصاً الوقوف الحازم لروسيا ضد الغرب، وضد الولايات المتحدة الأميركية، فإننا نلاحظ على الجهة المقابلة، أيضاً، أن الأكثرية من الأقلية التي تقف ضد الموقف الروسي هي في الواقع "تعادي" الموقف الروسي ليس من زاوية، ولا من باب تأييد الولايات المتحدة أو الغرب، وإنما لأسبابٍ أخرى تماماً، وغالباً لأسبابٍ "مبدئية" حول حقوق الإنسان، و"سيادة" الدول، وحول حق تقرير المصير، وأحياناً حول أن خلفية روسيا هي خلفية "استعمارية" أو حتى "إمبريالية"، وأن نظامها السياسي هو نظام "استبدادي" أو "أوليغارشي"، لا يختلف جذرياً عن أنظمة الغرب في "الحقل الاستعماري"، مع فارق أن الغرب يبقى "ديمقراطياً" بالمقارنة مع النظام السياسي الروسي.
كذلك يلاحِظ أن أتباع الغالبية من الأغلبية أن النظام الدولي الذي تمخض حتى الآن، والذي سيتّضح لاحقاً بصورة أكثر جلاءً وتبلوراً هو نظام جديد فيه الكثير من معالم "الثنائية القطبية"، أو التعددية القطبية التي ستنهي عصر هيمنة الأحادية القطبية التي سادت لسنوات طويلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما سيؤثر إيجاباً، وبصورة عميقة على تغيرات ستكون محصلتها لصالح فلسطين وصالح الشعوب العربية، وذلك بالنظر إلى طبيعة الدعم المطلق لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة، ومن قبل الغرب كلّه.
هذا الفريق يعتبر أن كسر الأحادية القطبية سيؤدي حتماً في ظل "التوازن الجديد" إلى كسر التحكم الأميركي بمنطقة الإقليم العربي وبمنطقة الإقليم الأوسع بما في ذلك "الشرق أوسطي"، وحتى الإسلامي، إضافةً إلى كسر هذه الهيمنة على المستوى الأشمل في المحيط الديمقراطي والتحرري الأوسع.
أما على الجهة المقابلة فإن غالبية الأقلية لا ترى في عالم الثنائية القطبية، أو التعددية القطبية إنجازاً نوعياً على أيّ صعيد، وتعتبر أن الشعوب ستكون ضحية للصراع بين هذه الأقطاب طالما أن الجوهر "الاستعماري" هو القاسم المشترك الأكبر فيما بينها.
فهل فعلاً أن الواقع الذي تفرزه هذه الحرب تباعاً يشبه أو يتشابه مع وجهتي النظر؟ وهل يتطابق الواقع مع هذه التوصيفات والتصنيفات؟ وهل أن حقيقة هذا الواقع ــ بما هو عليه، وبما يمكن أن يتمخض عنه ــ تكمن فيهما (أي في وجهتي النظر)، أم أن الحقيقة مختلفة ومغيّبة ومتوارية خلف ستائر أخرى؟
أو بصيغة ثانية: هل تكمن حقيقة هذه الحرب، حتى بخلفياتها ودوافعها، وبالتالي النتائج التي ستفرزها إمّا على هذه الجهة من وجهة النظر، أو على الجهة المقابلة لها؟
لكي نخلص إلى تحديد ماهيّة التوازن الإيجابي الجديد، وإلى تحديد الحلقة المفقودة في وبين هذين الفريقين لا بدّ من طرح مجموعة كبيرة من الأسئلة، ليس بهدف الإجابة المباشرة عنها، وإنما بهدف توضيح ــ بقدر ما هو ممكن ومتاح ــ أنه سيصعب، إن لم نقل سيستحيل تحديد "الخلل" الكامن في كامل منهج هذا الاصطفاف والتمحور!
من هذه الأسئلة؛ هل يجوز تحديد الموقف من هذه الحرب وسياقاتها ونتائجها من "خُرم إبرة" الموقف الروسي من دعم النظامين السوري أو الإيراني ــ على سبيل المثال؟ ــ، وهل يمكن الاعتداد الجدّي بمثل هذا الموقف؟
ثم هل يمكن التمترس حول (حق تقرير المصير للشعب الأوكراني بمعزلٍ كامل عن نفس هذا الحق فيما يتعلق بحوالى 40% من الشعب الأوكراني الذين هم إما من أصول روسية، او انهم من المتحدثين بها او الذين عوقبوا بأشد اشكال القمع من قبل النظام "الديمقراطي" الأوكراني؟
ثم أليس حق تقرير المصير هو حق مُصان لهم كما لغيرهم؟
وهل يحق لأي دولة (مستقلة وذات سيادة) أن تعمل على تقويض دولةٍ أخرى، وأن تشارك (بهمةٍ ونشاطٍ محمومين) لتهديد المصالح القومية، وأحياناً الوجودية لدولةٍ أخرى؟
ثم هل النظام الأوكراني هو نظام ديمقراطي حقاً، وهل هو وريث حالة ديمقراطية أم هو الهجين الرسمي "للانقلاب" على سلطة شرعية؟
من الذي تنصّل من اتفاقيات "مينسك"، ولماذا تنصّل أصلاً؟ إلا لكيّ يقوم بدور الوكيل المباشر للولايات المتحدة والغرب كلّه؟
ما هي طبيعة الطغمة الحاكمة في بلدان الغرب الرأسمالي؟ أليست هي رأس حربة النيوليبرالية المتوحّشة التي أمعنت في شعوب الأرض على مدى قرون كاملة نهباً وقتلاً واستئصالاً واقتلاعاً وتصفية وتطهيراً عرقياً ودينياً وإثنياً؟
وكيف نفسّر العداء والاستعداء للصين التي لم تحتلّ، ولم تغزُ، ولم تجتح، ولا تحكمها "طغمة"، وهي تحاول أن تنأى بنفسها عن كل صراع، وعن كل صراع عنيف في محيطها وفي العالم كلّه؟
وهل نفهم مثلاً أن ليس من حق الصين أن تستعيد تايوان إذا تحوّلت الطموحات لدى النظام السياسي فيها إلى مدخلٍ لتقويض الدولة الصينية؟!
وإذا كان حق الصين مُصاناً بالقانون بالمقارنة مع "القرم" مثلاً، فلماذا تقول الولايات المتحدة إنها لن تسمح عسكرياً للصين باستعادة أرضها؟
باختصار، الحرب في أوكرانيا وعلى "دورها" و"مهمّتها" ليست بين استعمارين، وهي ليست مسألة (ديمقراطية)، وليس لها علاقة بحق تقرير المصير، وهي ليست بين طغمة هنا وأخرى هناك، وهي ليست بين ظالم ومظلوم، ولا هي صراع على الحدود والثروات، بقدر ما هي حرب دفاعية قامت وبادرت إليها روسيا دفاعاً وفي مواجهة حربٍ كانت تُخاض ضد أمنها ووجودها القومي منذ اليوم الأول لانهيار الاتحاد السوفياتي، ومنذ أقحمت بلدان أوروبا الشرقية في حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي خصيصاً، من أجل تهديد المصالح الروسية ومصالح أي دولة لا تريد للغرب أن يسيطر عليها.
الحرب ستنتج نظاماً عالمياً جديداً متصارعاً على القيم والثقافة، وعلى المصالح الاقتصادية والجيو ــ سياسية، وعلى حق الدول والشعوب باختيار طريق تطورها دون وصاية الغرب وهيمنته، وفي هذا بالذات تكمن مصلحة حيوية لشعبنا وشعوب أمتنا، وشعوب الأرض كافة ليس من باب اختيار نظام سياسي واجتماعي بعينه، وإنما من باب اختيار الحق والقدرة بأن لا يكون تحت الهيمنة، وهذا هو التوازن الإيجابي الجديد.
الصراع هو بين رأسمالية متوحّشة وعدوانية تمثلها الليبرالية الجديدة الإجرامية، وبين رأسمالية الدولة القومية التي تترسّخ رويداً رويداً في روسيا، ومتكرّسة في الصين، وأصبحت خياراً لدول وشعوب كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وستصل الأمور إلى عقر دار أوروبا نفسها لا محالة، وليس الاقتصاد الاجتماعي في بعض البلدان الأوروبية سوى نسخة خاصة من هذه الخيارات.