الحجر الموجّه إلى رؤوس كبار القوم

حجم الخط

بقلم حلمي الأسمر

حينما يمسك الطفل الفلسطيني حجراً ويلقيه على دورية للجيش الصهيوني، فهو في الحقيقة يلقي بهذا الحجر على ما يمكن أن نسميه "مركز قيادة الأرض". فحجر الفتى يصيب البيت الأبيض والكرملين ومقر رئيس وزراء بريطانيا في 10 دوانينغ ستريت ومركز حلف الناتو في بروكسل، ويصل مداه إلى ميدان تيان أمين في قلب بكين، وتتناثر شظاياه لتصيب المكاتب الرئاسية ومراكز صنع القرار في الغالبية الساحقة من بلاد العرب والمسلمين، وتصيب بالطبع مركز "المقاطعة" في رام الله ويشجّ رؤوس ساكنيها!

نحن هنا نحتاج إلى رسام كاريكاتير ماهر ليرسم لنا صورة على الورق لرحلة هذا الحجر، وكيف يستفزّ كل هؤلاء المنخرطين في حماية رأس الجندي الصهيوني، وبالطبع، الوصول إلى يد هذا الفتى لبترها من جذورها، وملاحقة من "حرّضه" لارتكاب هذا الفعل "الإرهابي"، وربما تعقب الصخرة التي قُدّ منها هذا الحجر، وسحقها وتحويلها إلى تراب ناعم، أو وضع هذا الحجر في أساس مستعمرة جديدة تقام على أرض من أنجب هذا الفتى!

ربما في فلسطين وحدها يعتبر قانون الاحتلال رمي الحجر عملاً إرهابياً مكتمل العناصر، يعاقب مقترفه بالسجن مدة قد تصل إلى عشرين سنة سجناً (!)، علماً أن هذا القانون الغريب العجيب قسّم تهمة رشق الحجارة إلى درجتين: الأولى تخصّ رشق حجر أو أداة على وسيلة مواصلات بشكلٍ يهدّد أمن الراكبين والمسافرين، وتصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات. والثانية وجود نية مسبقة لرشق السيارات المسافرة بالحجارة أو أدوات أخرى، بهدف التسبب بإصابات خطيرة، وتصل عقوبتها إلى عشرين سنة سجناً، كذلك عاقب القانون ذاته المتهم برشق الحجارة أو أداة أخرى باتجاه سيارة الشرطة خلال قيامها بعملها "القانوني!" بخمس سنوات سجناً، وأتاح لأجهزة الشرطة والجيش ادّعاء تعرّضهم لحجارة الفلسطينيين، من دون الحاجة لإثبات ذلك!

الحجر المارق الذي قد لا يعرف الفتى الفلسطيني مدى "فداحة" ما يشكّله من خطر على السلم والأمن الدوليين، وعلى استقرار "العالم الحر" ورفاهيته، يستنفر كل مراكز صنع القرار في العالم، وهو كما يبدو يصيب أيضاً أزرار الحقائب السرّية التي يحملها رؤساء الدول "العظمى" في مكاتبهم الخاصة، ويحملونها في حلّهم وترحالهم، وتحتوي على مركز التحكّم بالقنابل البالستية والصواريخ العابرة للقارات المحمّلة بالرؤوس النووية. هذه ليست مبالغة لغوية أو شطحة فكرية، هذه حقيقة ساطعة كالشمس، وجدت تعبيراً لها على أرض الواقع منذ أكثر من مائة سنة، حينما قرّر "كبار القوم" في العالم زرع كيان العدو الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، وأصبح، منذ ذلك الحين، البقرة المقدّسة التي يجب حمايتها مهما فعلت، حتى ولو دخلت إلى أقدس بقاع الأرض لدى المسلم والعربي ودنّسته بفضلاتها!

نقول حقيقة لا جدال فيها، كانت، وهي الآن قائمة بكل "وقاحتها"، ويخططون لها أن تبقى إلى حين يشتد ساعد الفتى فيصرع الجندي، كما صرع داود جالوت، وكي لا يصل الفتى إلى ما وصل إليه داود، يتعيّن على "كبار القوم" إياهم، ملاحقة الفتى وقتله، وكل فتى يولد من صنفه، كما قتل فرعون كل أطفال بني يعقوب (إسرائيل) عليه السلام. ومع هذا تشاء الإرادة الإلهية أن يختار بيت فرعون تحديداً لتربية المولود موسى الذي يقضي عليه، وهذا هو شأن أطفال فلسطين اليوم، الذين يترعرعون ويقوون في "كنف الاحتلال!"، فهم حملة حجارة السجيل، التي تحولت بين أيديهم إلى صواريخ تجوب سماء تل أبيب وصفد والقدس وحيفا وعسقلان.

وكي نفهم ما يبدو "شططاً" هنا، دعونا نعود قليلاً إلى "توثيق" سريع ومكثف يضيء بعضاً من عتم شططنا هذا، ومن مصادرهم هم كما كتبوها بأقلامهم، وكما وردت في المرويات الفلسطينية، ووردت في غير مصدر مما كتب المؤرخون العرب والأجانب:

ــ جميع المعارك التي خاضها الفلسطينيون في أثناء النكبة حققوا فيها انتصاراً، لكن ذخيرتهم كانت تنفد من بين أيديهم، أو يتدخل الجيش البريطاني لينقذ إسرائيليين محاصرين، فينقلب الوضع.

ـ الأماكن التي سيطر عليها الفلسطينيون، والأسلحة التي استولوا عليها من مخلفات الجيش البريطاني صادرها جيش الإنقاذ الذي كان ينسحب من المناطق ليأخذها الإسرائيليون بكل بساطة.

ـ النكبة لم تحدث يوم 15/5/1948، بل بدأت مع منتصف عام 1947، وانتهت بتوقيع معاهدة رودس عام 1949.

ـ بدأ الصهاينة (بمعونة كبار القوم إياهم) بجمع المعلومات والتخطيط لاحتلال فلسطين [فعلياً]، منذ أواسط العشرينيات، وفي نهاية عام 1933، كانت لديهم سجلات لكل فرد وكل شجرة وكل حانوت وكل سيارة وكل بندقية وكل رأس غنم وحمار يملكه الفلسطيني.

ـ أول عمل قامت به إسرائيل بعد الاستيلاء على فلسطين 1948، مصادرة المكتبات الشخصية التي كانت في البيوت المهجورة.

ـ الحضارة التي كانت تعيشها المدن الفلسطينية قبل النكبة مذهلة، فقد كان لدى فلسطين 28 مجلة أدبية، ودور سينما، ومكتبات عامة، ومسارح، وصحف، وإذاعة، وموانئ، ومباني بمعمار مذهل، هذه كانت سمة الأرض التي بلا شعب، فكل هذا جاء وحده مع المطر.

ـ لم يكن اسم إسرائيل يرد في الأخبار ولا في الدوريات والصحف، حتى في وعد بلفور، كان اسم هذه البلاد كما هو الآن، فلسطين، حتى في الأدبيات الصهيونية المبكرة.

ـ القرى الفلسطينية التي فاقت 500 قرية لم يهجّرها الصهاينة فقط، بل دمروها بالمعنى الحرفي للكلمة، لم يتركوا أثراً فيها إلا ما نسوه مصادفة، وكانوا يقصدون بذلك أن يمرّ الوقت، وتُنسى تلك القرى من التاريخ.

ـ بريطانيا لم تعط وعد بلفور فقط، بل تسامحت مع صهاينةٍ قتلوا جنودها أيضاً، وسمحت بقدوم اليهود من أوروبا إلى فلسطين، واعتقلت كل فلسطيني لديه سكّين، في حين أن الصهاينة امتلكوا مصانع أسلحة تحت الأرض بعلم بريطانيا العظمى. (أكمل كبار القوم المهمة بعد أفول نجم بريطانيا، وتعهد البيت الأبيض برعاية كل ما كانت تفعله الإمبراطورية العجوز).

ـ لقد نجح إضراب عام 1936، وكاد يُفشل مخطط إقامة دولة إسرائيل لولا تدخل أصدقائنا. (أما من هم هؤلاء الأصدقاء، فيمكن أي تلميذ في مدرسة التاريخ أن يعرفهم بالاسم في عملية بحث سريعة على "غوغل").

ـ كانت الهدنة بمثابة نفخ الروح للوجود الإسرائيلي، وقد سعت أطراف عربية إلى تثبيتها.

ـ كثيرون هم اليهود الصهاينة الذين كانت علاقتهم وثيقة بالعرب الفلسطينيين، واستغلوا هذه العلاقة في ارتكاب المذابح لاحقاً، وفي معرفة نقاط الضعف في كل قرية فلسطينية.

قبل مائة عام، أقل قليلاً أو أكثر، حدث هذا كله، وها هي تستمر اللعبة، لقطع يد الفتى صاحب الحجر، في كل مرّة يفكر فيها برجم عدوه، ويلتقي "كبار القوم" لتدشين المرحلة الثانية من "تأبيد" قيام كيان العدو، عبر عملية ولادة قيصرية تجعله جزءاً من منطقتنا، سواء بالتطبيع أو التركيع بصفقة القرن أو بناتو عربي، أو بأي وسيلةٍ كانت، المهم أن يبقى هذا الكيان، وأن تكفّ يد الفتى عن حمل الحجر.

اللافت أن هذا الحجر انطلق على هيئة أربعة صواريخ من غزة، بعد سويعات من مغادرة بايدن فلسطين، مسافراً إلى جدّة لإكمال المهمة التي بدأت قبل قرن، جاء للتذكير بأن الشرق الأوسط الجديد الذي يحاولون بناءه لم يزل على حاله، شرق (أو شرف) يرفض وجود الخنجر المسموم في خاصرته، وسيبقى الحجر بيد داود الفلسطيني حتى القضاء على جالوت الصهيوني.