هارتس : مجزرة الطنطورة: شهادات تُفنّد أكاذيب المُنكرين (2-2)

حجم الخط

بقلم: الون شفارتس*



الآن، سننتقل لىسعادة القاضية درورا فلفل. خلافاً لجماعة المُسكتين الذين هم غير مستعدين للاعتراف بالخطأ الذي استمر سنين بعد الحدث، وحتى أمام الصوت الواضح لجزء من الجنود الذين يعترفون بشجاعة كبيرة بجرائم الحرب التي ارتكبت هناك، توجه القاضية نظرة مباشرة الى الكاميرا وتقول بدون مواربة: «لو أنه كان لدى تيدي كاتس مواد كهذه لكان عليه أن يواصل حتى النهاية. حتى أن القاضية ردت في هذه الصحيفة باختصار وبصورة موضوعية على مقال اردنست وعلى ادعاءاته بشأن ما حدث في قاعة المحكمة بالقول: «يقدم المحامي اردنست في مقاله معلومات غير صحيحة». وحسب رأيي، مطلوب درجة كبيرة من الشجاعة والاستقامة من أجل فعل ما فعلته القاضية فلفل.
كتب اردنست في مقاله بأن أخطاء كاتس لم تنبع من الإهمال، بل يدور الحديث عن «تزوير حقيقي». فهل حكمت أي محكمة في أي يوم بشيء يؤيد هذه التهمة الخطيرة؟ هل في اللجان المشكّلة من قبل جامعة حيفا، التي ناقشت العمل، توصلوا في أي وقت الى هذا الاستنتاج؟ بالتأكيد لا. ومثلما شرح في الفيلم المحامي افيغدور فيلدمان: من يؤمن تماما بصدق نهجه يجب عليه اثبات ذلك في المحكمة، وأن لا يناضل من اجل أن تنتهي المحاكمة بتسوية شبه مفروضة أو إلغاء بدون نقاش كامل وعميق فيه تعرض جميع الشهادات وتسمع فيه ادعاءات جميع الأطراف.

أريد النسيان
منذ انتهاء المحاكمة بشكل سريع وبمصالحة يستند أعضاء طائفة المنكرين إلى أنه «كانت هناك محاكمة»، ويعلنون بأنهم انتصروا فيها. لذلك، هم يخلقون مظهراً خاطئاً لا يصيب الحقيقة ويضلل الرأي العام. الحقيقة هي أن المحاكمة انتهت برسالة استسلام تم املاؤها على كاتس. فقد وقع كاتس على الرسالة كما هي بدون أي تغيير تحت الضغط الذي استخدم عليه، سواء من قبل جنود الكسندروني أو من قبل رجال جامعة حيفا، أو ربما بالأساس من قبل عائلته التي تراجعت نفسياً واقتصادياً تحت مكبس الضغط. يعتبر هذا وصمة عار لرجال الكسندروني ووصمة عار لجامعة حيفا وايضا وصمة عار لجهاز القضاء في إسرائيل، الذي لم يقبل طلبه التراجع وإجراء محاكمة عادلة حتى النهاية. لا أحد رغب في أن يجرى في إسرائيل «محاكمة للنكبة». هذه هي الحقيقة المجردة.
سنستمر مع المحامي اردنست، الذي يأتي تعزيزاً لاقواله، بشهادة شلومو انبر، الذي كان في حينه ضابطا شابا في الكتيبة 33 وبعد ذلك أصبح قائدا للكتيبة وقائدا للدفاع المدني في الجيش الإسرائيلي. كتب اردنست: «المشاهد ايضا لا يعرف أن شلومو انبر، الذي يستند اليه شفارتس، لم يحارب في الطنطورة في المرحلة التي فيها حسب ما تم الادعاء، ارتكبت 'المذبحة'. كان انبر ضابط متفجرات وصل فقط حتى بوابة القرية التي قام بتفجيرها، ولم يدخل الى الداخل». امامنا مثال حي عن كيفية تعبير اردنست عن نفسه من خلال التلاعب الأساسي بما ادعي به فعلياً: حدث تفجير السلسلة قبل الدخول الى القرية من الشرق في الليل، وانتهى القتال عند بزوغ الفجر. أثناء اليوم الذي ادعي فيه بأنه ارتكبت عملية قتل لاشخاص عاجزين لم يكن هناك قتال. هذه هي القصة. شهادة انبر ربما هي من الشهادات الاكثر اهمية التي سجلها كاتس. حاول انبر في الحقيقة في بداية الشهادة إبعاد نفسه عما حدث في الطنطورة من خلال القول بأنه كان في حينه جنديا شابا في الكتيبة. وأشار الى أنه تقريبا لم يشارك في معركة الطنطورة، بل فقط قام بفتح السلسلة التي توجد بين منحدرات الكركار عند مدخل القرية.
ما نسي اردنست الإشارة اليه هو ما قاله انبر لكاتس في نهاية شهادته. قال انبر إنه كان في المقبرة وعلى شاطئ البحر غداة ليلة المعركة، وهناك رأى اشخاصاً قتلى. منطقة المقبرة هي المكان الذي تم فيه تنفيذ جزء من الاعدامات، ضمن امور اخرى وحسب شهادات اخرى. من الامور التي شرحها انبر لكاتس يُفهم لمن يستمع بأنه حسب رأي انبر فإنه بسبب أنه لم يسمع صوته في حينه ووقف جانباً، فليس له حق أخلاقي للتحدث والاحتجاج بأثر رجعي على ما حدث في الطنطورة. حتى أن انبر قال لكاتس في شهادته بأنه حتى الألمان لم يقتلوا أسرى حرب غربيين، بالاشارة الى ما فعله جنودنا مع الأسرى في الطنطورة.
في نظرة إلى الصور الجوية يتبين أن أخاديد الكركار التي تم فتح السلسلة قربها توجد على بعد 950 متراً شرق المقبرة (الآن المكان موقف سيارات في حوف دور والعشب الاخضر في جنوب متحف الزجاج). لذلك، يتبين من شهادة انبر أنه مر بـ «بوابة الدخول الى القرية» وشاهد ما شاهده خلافاً لما يدعيه اردنست.
من المهم الاستماع الى الشهادة الكاملة والطويلة لانبر بصوته من أجل فهم التناقض. من يصغي جيداً يعرف أن هذه المشاهد طاردت انبر عشرات السنين بعد ذلك. «اريد النسيان»، قال انبر بصوت منكسر. من يبحث عن عدم سماع الحقيقة فانه كالعادة سينجح في ذلك. ومن يصغي جيداً لصوت انبر المتألم والنغمات في صوته والوقفات الصامتة سيفهم كل القصة. امامنا مثال واضح لماذا النص الجاف المتبع في المحاكم وفي الاكاديميا ليس وسيلة كافية لفهم كل الصورة، ولماذا من يتعاملون مع المهنة السيزيفية لجمع الشهادات، مثلما فعل تيدي كاتس، ومثلما فعلت أنا، يمكنهم أن ينزلوا اكثر الى عمق الامور، اكثر من الذين لا يريدون أن يعرفوا ويرفضون الاستماع للصوت والنغمة نفسها. ما يحاول اردنست فعله هو إسكات النقاش وإسكات من يتجرؤون على الحديث عما كان هناك من زاوية لا تتفق مع القصة المجملة التي يقدمها.
أنا مسرور لأنني سمعت اردنست يقول في الأشهر الأخيرة في المذياع وفي التلفاز بأنه مات في الطنطورة اشخاص أيضا «على هامش المعركة». هذا كما يبدو مفهوم قام هو بتطويره، لأنه لا يمكنه مواصلة التمسك بفرضية أنهم لم يقتلوا أي أحد هناك.
أحضرتُ هنا فقط عدة امثلة على تشويه الحقيقة من قبل رجال جبهة الاسكات. معظمهم كانوا مرتبطين بالقضية قبل فترة طويلة من صدور الفيلم. هم غير موضوعيين. وسنحتاج الى مقال من عشرات الصفحات لدحض ادعاءاتهم المتبقية. ولكن لا توجد حقيقة اقوى من لغة الجسد للجنود الإسرائيليين الذين كانوا هناك، سواء اعترفوا أو لم يعترفوا بأحداث ذاك اليوم التي يريد الجميع نسيانها. لا توجد شهادة أقوى من الشهادة المصورة على شاشة السينما. ليس باستطاعة أي قدر من الحنكة القانونية لمحامٍ رفيع المستوى أو أي هذيان اكاديمي لهذا المحاضر أو ذاك اخفاء الحقيقة المرئية للمشاهد عن أعين الجنود أنفسهم.
هذا لن يتكرر ..
حتى لو أن الامر كان يتعلق بشهادات شفوية عمرها خمسون سنة وأكثر، وهنا وهناك حدث خطأ، إلا أن أي عاقل يعرف أنه حدث في الطنطورة أمر فظيع. كما يبدو العدد الدقيق للقتلى، الذين استغرق دفنهم وقتاً طويلاً، لن نعرفه في أي يوم. شملت أساليب القتل، حسب الشهادات، إطلاق النار على أشخاص تم توقيفهم في طوابير أمام الحائط، وإطلاق النار من مدفعية على خيام تم تجميع أشخاص فيها، وإطلاق النار من مسدس «باربيلوم» من مسافة صفر على رؤوس أشخاص، وإلقاء قنابل داخل الغرف التي تم فيها تجميع مدنيين، وإحراق عدد من الاشخاص وهم على قيد الحياة (بما في ذلك امرأة) بقاذفة ملتهبة، وفي بعض الحالات صدرت اوامر لأشخاص بحفر بئر وأطلقت النار على رؤوسهم. هذه قائمة جزئية. يوجد في يدنا ايضا شهادات، رغم أنه لم تشمل في الفيلم، بأنه تم قتل اشخاص بعد التحقيق معهم من قبل «شاي» (جهاز مخابرات الهاغاناة). اضافة الى ذلك، حسب الشهادات، كان هناك تسجيلات، ومن كان لديه في بيته سلاح تم اطلاق النار عليه بعد تسليم هذا السلاح للجنود.
هذه الجرائم لم ينفذها فقط جنود مارقون. توجد لدينا شهادات مع اسماء عدد من القتلة، التي بشكل متعمد لم يتم إدخالها في الفيلم بدافع حماية ابناء عائلاتهم. يشمل هذا ايضا ضابطاً شاباً اصبح بعد ذلك ضابطاً رفيعاً جداً في الجيش الإسرائيلي وفي أجهزة الدولة. لا يدور الحديث فقط عن «ناجين من الكارثة وصلوا الآن من المعسكرات» أو عن «رجال الايتسل الذين تم ضمهم». كان القتلة هناك من «افضل الشباب لدينا». أولادنا جميعا. وهناك شيء آخر مهم وهو أنه حسب الشهادات التي لدينا فان الكثيرين عرفوا وقاموا بإخفاء ذلك.
يجب على الشعب الإسرائيلي الخجل مما حدث في الطنطورة وأن يتعلم. يجب عليه التعلم بأن فصل التاريخ هذا ممنوع أن يتكرر. ممنوع أن تكون هنا نكبة ثانية. «يجب عدم تكرار ذلك في أي يوم»، هذه الاقوال تسري هنا ايضا.
يجب علينا الفهم بأنه في السياق غير المعقول لما بعد الكارثة فان الحدث الذي كان في الطنطورة واحداث الذبح في عشرات الاماكن الاخرى في تلك الحرب غير مبررة، ولم تعد جديرة بالإخفاء.
مع كل ذلك لا أعتقد أنه يمكن اعادة العجلة الى الوراء. لا أعتقد بأن اليهود يجب أن يتنازلوا عن مكانهم في هذه البلاد. أنا على ثقة بأنه بعد ثلاثة ارباع القرن التي مرت حان الوقت للنظر مباشرة في المرآة، وأن نعرف بأننا اقوياء بما فيه الكفاية كي نعترف بمعاناة الطرف الثاني والاعتذار بشكل رسمي عن جرائم تلك الحرب. سيكون من الافضل لنا اذا عرفنا أنه يجب علينا تحمل المسؤولية عن الطرد الجماعي والمتعمد الذي حدث هنا، الذي يُعتبر المفهوم الصحيح والحديث لتعريفه هو «التطهير العرقي».
يجب علينا فعل ذلك من خلال البحث عن طرق جديدة واصيلة تمكن من اجراء مصالحة وانهاء للنزاع. الاعتراف هو الأساس لكل شيء. بدون الاعتراف ستستمر الحرب. مطلوب تفكير خارج الصندوق. يجب أن تطور الصهيونية منظومة تشغيلها اذا كانت تنوي البقاء. لا يعني تحمل المسؤولية اعادة اللاجئين الى الطنطورة، وطرد اعضاء الكيبوتسات من نحشوليم واعادتهم الى تركيا. توجد طرق اخرى أفضل وعادلة أكثر. أعتقد أن احتمالية تغيير الاتجاه تكمن اولا وقبل أي شيء في قدرتنا على قول الحقيقة، والتوقف عن محو تاريخ وذاكرة الشعب الذي يقاسمنا هذه البلاد، والاعتراف بحقه في أن يقوم بالحداد على كارثته حتى في يوم عيدنا (أو معنا في يوم ذكرانا) حتى أن يرفع علمه بدون أن يهددنا ذلك.
أنا على قناعة بأنه اذا قلنا الحقيقة فسنستطيع أخيرا الخروج قليلا من موقف الدفاع الأبدي الذي تمترسنا فيه لعشرات السنين، والتفرغ لانتاج مستقبل افضل يتضمن مصالحة تاريخية بين الشعبين على اساس تقسيم البلاد الحبيبة والنازفة هذه. يجب أن تعترف دولة إسرائيل بالنكبة. وقد حان الوقت للتوقف عن الكذب. بعد أن نفعل ذلك وبعد أن نعلم ذلك في جميع اجهزة التعليم لدينا سيكون من الأسهل علينا التحاور مع الفلسطينيين والادعاء بأن عليهم أن يغيروا من ناحيتهم حلم حق العودة الى ارض إسرائيل مقابل تعويضات كبيرة، وأن يكون لهم حق في العودة الى داخل حدود دولة فلسطين التي يجب أن تقوم الى جانب دولة إسرائيل. الزمن ينفد ويجب التقدم. تقضي الصهيونية على نفسها بالسير الحثيث نحو دولة ثنائية القومية من البحر وحتى النهر. لا يوجد مستقبل لدولة اليهود إذا استمر حكم القمع وإذا لم يتم تقسيم البلاد.
إذا شئنا، هذا ليس اسطورة.

عن «هآرتس»

*مخرج  فيلم «الطنطورة».