فَشِلَ الاغتيال ونجحت المحاولة!

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

محاولة اغتيال الدكتور ناصر الدين الشاعر هي بكلّ المقاييس محاولة "ناجحة" حتى ولو فَشِلَ الاغتيال نفسه، أو لنقل إنها مرشّحة للنجاح.
"ناجحة" في التوقيت، و"ناجحة" في الشخصية المستهدفة، وهي "ناجحة" في الأهداف "الكبيرة" التي تقف وراءها مباشرة، أو في خلفية المسرح عند من يكون قد أعدّ لها بمكرٍ ودهاءٍ وخبثٍ مسموم.
وهي أكثر نجاحاً إذا ما كان الهدف، أو أحد أهدافها هو استخدام العملية للقياس عليها من حيث ردود الأفعال، ومن خلال جدّية التحرك في مواجهة نتائجها، والانتباه إلى ما يمكن أن يترتب عليها، وذلك لتحديد استراتيجية متكاملة لأعمالٍ مستقبلية من وجهة نظر من أعدّوا لها، وخطّطوا للقيام بها.
لو فصلنا التوقيت عن الشخصية المستهدفة، وعن الأهداف لما كان لهذه المحاولة "الأهمية" التي تنطوي عليها، ولما صلحت كمعيار "لنجاح" أعمالٍ كبيرة قادمة لا بدّ أنها جاهزة، ولا تنتظر سوى البدء بها بعد "التأكد" من حقيقة ردود الأفعال عليها، وبعد اختبار مدى جدّية الطرق والوسائل التي سيتمّ اللجوء إليها، بل ومدى تنبّه المجتمع الفلسطيني وكل قياداته ومنظماته وأحزابه وفصائله لخطورتها.
بل وأكثر من ذلك فإن الأرجح هو أن هذا التوقيت للشخصية التي تم استهدافها يشي بقوة بأنه سيكون (بالنسبة للمخطّطين الحقيقيين) هو منطلقهم نحو تنفيذ "استراتيجية" متكاملة لتفتيت الوضع الفلسطيني في الضفة تحديداً، تمهيداً لما يرونه قابلاً للتنفيذ، وصالحاً وفعالاً في هذه الاستراتيجية.
هذه ليست عملية فلتان أمني، وليست فوضى سلاح، ولا يتعلق الأمر بأي اعتبارات "محلية" أو عائلية أو اجتماعية، وليست ردود أفعال متهوّرة على أهداف خاصة سابقة، ولا يتعلق الأمر بأحداث الجامعة، ولا بتاريخ من الصراعات الغابرة أو البعيدة! بقدر ما أن هذه المحاولة هي استحضار لكل ما سبق ذكره أعلاه لكي يكون في واجهة المشهد بهدف "إخفاء" من هو في خلفيّته.
وهذا الاستحضار هو اختبار "ذكيّ" للغاية، لأن من شأن التغافل عنه أن يؤدي (حسب تخطيطهم) إلى "تمييع" ردود الأفعال، وإلى تشتيت الانتباه عن خطورة المحاولة، وعن الأهداف الكبيرة منها.
هنا نعود إلى جوهر الهدف.
باختصار، فإن "المطلوب" هو معرفة فيما إذا كانت الأرضية قد باتت ممهّدة بما يكفي لتحويل السلطة في الضفة إلى "سلطات" محلية، في المناطق المختلفة، ليس بهدف تقويض وجود سلطة واحدة فقط، وإنما بهدف تحويل هذه السلطة "الواحدة" إلى مجرّد "إدارة" لسلطات موزعة على المحافظات والمناطق، أو دخول هذه السلطة التي يُفترض أنها واحدة في صراعات مع "السلطات" المحلية، والدخول في "مساومات" معها لكي تصبح هذه السلطات (رسمياً) هي الجهة "الشرعية" للضبط الاجتماعي، وهو الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تحويلها بالتدريج إلى هياكل وبنى مؤسساتية "تتحكم" وربما تشرف، أيضاً" على "الضبط" الاقتصادي، بما في ذلك الجباية الضريبية أو أحد أشكالها المستحدثة، وبالتالي "التقاسم" مع السلطة "المركزية" (إذا جاز التعبير) الشأن السياسي بعد أن تكون فرضت نفسها في البعدين الاقتصادي والاجتماعي.
وهنا بالضبط يتدخّل الاحتلال بصورة سافرة ومكشوفة، ويصبح هذا التدخل هو الآلية التي تؤسس لخلق قيادات محلية لها الكثير من السمات العائلية والحمائلية، ولها الارتباطات والتشابكات في الاتجاهات، وفي المجالات المختلفة، وبذلك يتحول هذا التدخل من قبل الاحتلال إلى "الناظم" الفعلي لهذه العلاقات.
وهنا، أيضاً، وباختصارٍ، أيضاً، يبدأ مشروع التفتيت الذي سيؤدي إلى "إعادة البناء" على أساس مشروع "الولايات السبع" وبعد أن يكون الصراع الداخلي قد وصل إلى ما وصل إليه من صراعٍ مع الاحتلال إلى صراعٍ على "السلطات".
أي بعد أن كنّا في حالة صراع بين سلطتين (لا سلطة فعلية لهما بين الضفة وغزة) إلى صراعات جديدة في الضفة، وحيث إن قطاع غزة حُسِمَ أمر انفصاله تماماً عن الضفة، وحيث المشاريع الاحتلالية ستكون قد كرّست الانفصال التام للقدس بعد (المهلة الكافية) التي حصلت عليها إسرائيل من الرئيس الأميركي جو بايدن عندما أكد أن الحل القائم على أساس الدولتين بات مؤجّلاً ومفتوحاً في الزمن.
أي أن إسرائيل باتت طليقة اليدين لتحويل انفصال غزة إلى واقعٍ لا يمكن العودة عنه (إذ كيف سيكون ممكناً العودة عنه طالما أن الضفة تعيش ما يخطط لها من صراع السلطات، وكيف للقدس أن لا تكون منفصلة طالما أن الوقت المطلوب لانفصالها بات "متاحاً؟)
أيّ قراءة لا تضع في اعتبارها الأول وحسبانها المباشر أن محاولة اغتيال الشاعر هي الاختبار الأخير، والفرصة الأخيرة لمراجعة كامل نهج "السماح" بالانفلات، وانتشار فوضى السلاح، والتهاون في وجود نظام ديمقراطي يفرض وجود القانون في سلطة أو دولة القانون وقبل فوات الأوان هي قراءة غبية وفاشلة.
وكل محاولة "لتقزيم" حادثة المحاولة هي "مساهمة" مباشرة، وليس غير مباشرة في تكريس (ازدواجيات) السلطة في الحالة الوطنية. وأي تهاون أو تغافل، أو تساهل في التصدي الحازم والحاسم لما يجري على الأرض من فلتان وفوضى وتنامٍ من سلطاتٍ هنا وهناك، بهذه الذريعة أو تلك، وتحت هذا الغطاء أو ذاك هو في الواقع ليس سوى الفصل الأوّل في مشروع التدمير للحالة الوطنية، وهو الفصل الأخير في حياة الحركة الوطنية الفلسطينية كما عرفناها وعايشناها، وهو عنوان "الرحيل" المؤلم لقوانا السياسية ومنظماتنا الوطنية، وفصائلنا السياسية التي تصدّرت وقادت العملية الوطنية على مدى السنوات الخمسين الأخيرة في نضالنا الوطني.
لا يتعلق الأمر بخصوصية محاولة الاغتيال بقدر ما يتعلق بالدلالة، وما تؤشّر عليه وتعكسه من تردٍّ كبيرٍ في الواقع الوطني، خصوصاً وأن إسرائيل تمعن في اغتيال المقاومين، وتستبيح دماء النشطاء الذين يحملون السلاح في وجه الاحتلال بإجرامٍ منظّم ومجازر علنية في نابلس وجنين تمهيداً لاكتمال خارطة المشهد في كل مكان من الضفة.
إذا لم يتمّ فوراً وبسرعة تدارك أهداف محاولة الاغتيال فالمحاولة قد نجحت حتى ولو فَشِلَ الاغتيال.