لا يمكن اختزال الحكيم في مقولة او مقولات قليلة، وما اسوقه يشي بمضامين مكثفة ناتئة في شخصيته. وكانت تحدوني الرغبة لكتابة مقالة في ذكرى رحيله اتابع فيها ما نشرته من قبل، غير ان ظروف الاعتقال حالت دون ذلك . وعليه يغلب على هذا النص سرديات ومقتبسات في حدود ما يسمح به النشر .
منهجيا : ومنذ البدء انه يتسلح بالإرث الاغريقي للعقلانية ( الذي يريد ان يفهمنا عليه ان نفهم اننا نفكر) فهو ليس صدىً لهذا الحليف او ذاك ، ورغم الثقافة الغزيزة المتنوعة ( لقد قرأنا الديانات والفكر الرأسمالي والفكر الاشتراكي ) غير انه ليس من حفظة الفكر او يحاول اسقاطه على الواقع المتغير ( الفكر دليل عمل مرتبط بعلاقه جدلية بالممارسة ) .
( ان فترة الاعتقال في سوريا 1968 من اغزر الفترات التي قرأت فيها الماركسية)، ( ونسترشد بالماركسية منهجاً واداة تحليل دون الاستغراق في تفاصيل قضايا الماركسية – اللينينية التي ارتبطت بتفاصيل التجربة الروسية وبعض التجارب الاوربية .
والاسترشاد مرهون بكيفية فهم النظرية – والقدرة على فهم واقع معييّن ومرحلة معينة . الماركسية دليل عمل لا عقيدة جامدة ، ( وعلينا الباسها عقال وكوفية ) وهو بذلك ينسجم مع عقول لامعة في الفكر النقدي الثوري. ( ليس هناك ماركسية مجردة، اذ علينا ان نأخذ شكلاً قوميا قبل تطبيقها، ماركسية محددة في الظروف المحددة. ولو ان ماركسياً صينيا تحدث عن الماركسية دون خصوصيات صينية فحينها يكون محض تجريد فارغ ) ماوتسي تونغ، دأبا على زاوية النظر لدى لينين ( ماركس وضع حجر الأساس وعلى الاشتراكيين اذا أرادوا ان يواكبوا الحياة ان يطوروا وفي كل الاتجاهات ) ب ( التحليل الملموس للواقع الملوس ) لينين وعلى زاوية النظر لدى ماركس ( من المجرد العام الى الملموس الخاص ) الذي رفض الجمود العقائدي والكسل الذهني فرد على مجموعة فرنسية تبنت أفكاره ( انا لست ماركسيا ) .
وقد لخص غرامشي بذرة جدل النظرية والممارسة في تعبير واحد ( البراكسيس) فتتبادل النظرية والتطبيق التأثر والتأثير ، كل منهما يغني ويصوب الأخرى في صيرورة لا ضفاف لها . ( فالنظرية جامدة اما شجرة الحياة فخضراء) و( عليها ان تتمثل كل جديد) و ( ان تدرّس كعلم مذ غدت علماً) انجلز .
( وبعد تفكير عميق ) تتردد هذه الكلمات في احاطات ومداخلات الحكيم، استخرج حل التناقضات. ونظريات ومقاربات الفكر الماركسي انما تنطلق أولا من قراءة التناقضات . فاشتق قانون ( الوحدة والتناقض ) في العلاقة مع القوى التحررية والطبقات والشرائح الوطنية الفلسطينية بما اعتور المسيرة الوطنية من نضالات (واخطاء وخطايا)، بلغته.
وقانون ( التحالف والنقد) في العلاقة مع المعسكر الاشتراكي، التحالف حيث المشتركات والنقد للسلبيات وما لا يتوافق مع الحقوق الفلسطينية، وقانون ( التحالف والتناقض) في العلاقة مع الأنظمة البرجوازية الوطنية العربية التي استمرت في مناهضتها للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وبعضها ارتد بعد ان تحولت البرجوازية الصغيرة الى برجوازية تابعة ومستسلمة ومصطفة في الخندق المعادي وسارت في خط التطبيع والتطويع... وسجّل في الاستراتيجية السياسية عام 1969 ان معسكر الأعداء يتكون من الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية ) وأضاف عليها بعد الحقبة النفطية وكامب ديفيد ( البرجوازية المستسلمة). وباتت القوانيين الناظمة والحاكمة للفكر السياسي الذي يسير عليه الحكيم، ولكل تناقض طابعه ووسائل تسويته ، واتبع ذلك بمقولتين بارزتين ( لا ينبغي ان ينتهك التاكتيك الاستراتيجية ولا ان تنتهك السياسة الأيديولوجية ) و( ان الفكر يحدد والسياسة تحسم) متناغما مع ماركس ( اياكم والتنازل النظري اياكم والتنازل عن المبادئ) .
وفي نظرته للدين (كمسألة ضميرية شخصية لا ينبغي لأجهزة الامن ان تتدخل في عقائد الناس)ماركس شدد على ان قضايا الحياة هي ما يشغل بالنا وميّز ( بين دين وحركات دينية رجعية وبين دين وحركات دينية تحررية ) و( بخلاف أوروبا حيث اصطدم الدين تاريخيا بالقومية فالدين تاريخيا كان حاملا للقومية العربية ) وقد اسهم شخصيا في المؤتمرات القومية والإسلامية العربية .
ومنذ بدايات حركة القوميين العرب وما بعدها ( انطلقنا من المواطنة المتساوية دون تمييز ديني او جنسوي) وان ( المرأة تصلح لكل المهام ) و( قواعدنا الفدائية تضم الرجال والنساء) و( الثورات تنتصر بقدر مشاركة النساء فيها) لينين و(اننا ضد كل استغلال طبقي او اضطهاد قومي او جنسي او ديني ) لينين ومع كل الحقوق الإنسانية والنقابيه للمرأة ( فهي مضطهدة المضطهدين ) بيبل.
وفي مرحلة متقدمة من عمر الجبهة كانت نسبة المرأة في القوام الحزبي 17% وفي ساحات معينه 25 وتحضر في كل المستويات المركزية والكادرية والقاعدية .
في الفكر السياسي : لقد انسجم مع ماوتسي تونغ ( الثورة تنبع من فوهات البنادق) ومع لينين ( ان طبقة "شعب" لا تتعلم حمل السلاح تستحق ان تعامل معاملة العبيد ) ومع فرانز فانون ( التحرر يتحقق بالعنف) ومع راؤول كاسترو( حرب العصابات هي المحرك الصغير الذي يحرك المحرك الكبير) ومع عبد الناصر ( ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة ) ومع غيفارا ( ان حرب العصابات هي الطريق) .
و( وبعد النكبة جرت نقاشات في العروة الوثقى في الجامعة الامريكية ... كان خلافنا مع الشيوعيين على قرار التقسيم والاعتراف بإسرائيل، ومع البعثيين انهم لم يضعوا القضية الفلسطينية في المقام الأول ... ان مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري تكون من خلال مشروع قومي عربي يكون على راس جدول اعماله تحرير فلسطين ) الحكيم و ( كانت رؤيتنا في الحركة ان الثورة العربية تمر بمرحلتين متشابكتين ومتمايزتين مرحلة الثورة السياسيه ومرحلة الثورة الاجتماعية ... ونشأت الحركة تميزت بطابع جيفاري حيال المسلكية الشخصية للثوريين.... ان عجز الثورة يكمن في قيادتها الطبقية البرجوازية ) و( في لقائي الأول مع عبد الناصر في منزله بمناسبة افتتاح السد العالي كان في ذهني موضوعان اساسيان، الأول باحياء حركة الجماهير والثاني يتعلق بالكفاح المسلح في الجنوب العربي ( اليمن) والثورة المسلحة في فلسطين . وكنا نرى ان العمل الثوري هو الكفيل بتوليد الظروف لمواجهة الامبريالية). و ( بعد انفصال الوحدة المصرية – السورية اوفدنا الرفيقين هاني الهندي ومحسن إبراهيم لمناقشة عبد الناصر ... كنا نرى ان السبب الأساس لغياب الديموقراطية وسلطة الأجهزة الأمنية على العمل السياسي إضافة لضيق افق كبار الضباط الذين قادوا الحياة السياسية في سوريا... اما عبد الناصر فأعاد الأسباب الى التآمر الخارجي ) .
وكمثقف ورجل فكر، ادرك ( ان حزب الطليعة يسترشد بنظرية الطليعة ، لينين واسترشد بها لإنتاج رؤية فلسطينية ومعالجات فلسطينية في كافة الاتجاهات. والاسئلة الملحة كانت ( كيف نصنع ثورة ، كيف نبني طليعة ثورية، ما دور الطليعة وما دور العفوية، النضال الجماهيري وحرب العصابات، الانتفاضة والعمل النخبوي ، الانتخابات الإصلاحية والنضال الثوري ، علاقة السياسة بالبنية الاقتصادية – الاجتماعية ، الثقافة والفكر والابداع، المسائل الفلسفية والمنهجية الموجهة للرؤية والتحليل ، العلم والفلسفة ،...) وقد نصَحَ.
(اقرأوا ادم سميث وريكاردو والكينزيه وميلتون فريدمان والليبرالية الجديدة وسمير امين ...) وكان على علاقه بكبار المثقفين العرب والفلسطينيين وقد فتحت (الهدف) صفحاتها لمساهماتهم دون قدرة على استمرار العلاقة بهم ( كانت ممراً لا مستقراُ) وتقاطع مع مقولة دوبريه ( لا ادب دون أيديولوجيا) وكان غسان كنفاني المرآة المقعرة لذلك كما ناجي العلي وسواهما ... وربطته علاقة تقدير مع المسرحي سعد الله ونوس صاحب مقولة ( لا خوف على شعب لم تهزم ثقافته) في توافق مع فرانز فانون ( هناك اتجاهان ، اتجاه المثقف الذي يتحرر في مجرى النضال الحقيقي من اجل الحرية والمثقفون الماكرون والأطفال المدللون للاستعمار والحكومات الوطنية الذين ينهبون الموارد القومية) في انسجام كلي مع المفكر الكبير غرامشي عن( المثقف البنيوي للكتلة التاريخية التقدمية ومثقف السلطان ) .
وقد لخص الحكيم منظوره بالقول ( قد نواجه هزيمة عسكرية او اثنتين وهذه مشكلة ولكنها ليست كارثة وقد يتبع الهزيمة العسكرية انهيار سياسي وهذه مشكلة مضاعفة ولكن الأمور تعود للاستقامة ولو بعد حين أما الكارثة فهي عندما تنهار الجبهة الثقافية – النظرية التي تصل لعمق الانسان والبنية الداخلية الذاتية للمجتمع ) .
ومن بين تمظهرات اهتمام الحكيم بالجبهة الثقافية احتضانه للشهيد غسان كنفاني عضو المكتب السياسي ورئيس تحرير" الهدف" ( عرفته في الخمسينيات ، كان شابا واعداً متحمساً يتعثر في الليالي لتأمين خبز اسرته، في ابداعه الادبي معطاء، سيّالا يغرف من بحر التجربة ليبدع ، الصورة الاروع والاصدق ...كان له باع طويلة في السياسة بما له من دور قيادي في الجبهة، وكان محاوراً ديموقراطيا حين تتفق معه او تختلف، واستطاع بعقله الشامل ان يقوم بدور اعلامي بارز في إيصال القضية الفلسطينية الى الرأي العام العالمي ، كما انه من المتابعين الجيدين للفكر والفلسفة الغربية، عبقريته تكمن في قدرته الخارقة على الأحساس باللحظة والتعبير عنها ... انه بأمانه لغز بديع في عقله وطاقته التي لا حدود لها وروحه الفاعلة المتحفزه دوما للعمل ) و( كنت التقيه أسبوعيا لمناقشه افتتاحيه الهدف وآخر كتابا قرأه...)