هارتس : يستطيع لابيد أن يحقق لإسرائيل "الاستقلال الحقيقي" عبر إقامة دولة فلسطينية

دمتري-شومسكي.jpeg
حجم الخط

بقلم: ديمتري شومسكي


ثمة تشابه مهم في السيرة الذاتية بين رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلانسكي، وبين رئيس الحكومة الإسرائيلية، يئير لابيد. فقبل دخولهما السياسة كان لهما نجاح واضح في مجال الإعلام والفن والإنتاج السينمائي والتلفاز. ترك كلاهما هذا النجاح في هذه المجالات لصالح السياسة بهدف علني وهو الإسهام في إصلاح ما هو أعوج في الواقع السياسي والاجتماعي في دولته. أثار كلاهما في البداية شكوكاً كبيرة من قبل من رفضوا التصديق بأن نجوم الشاشة، المسؤولين عن الترفيه عن الشعب، قادرون على التحول الى سياسيين جديرين بتحمل المسؤولية عن مصير الشعب، وأثبت كلاهما أن المتشككين قد اخطؤوا.
ولكن رغم خطوط التشابه بينهما فإنه في المرحلة الحالية ما زالت ظاهرة للعيان فجوة كبيرة بين الزعيمين. مهما كانت النتائج النهائية للهجوم الإجرامي لروسيا على أوكرانيا، إلا أنه لا شك أن زيلانسكي قد ضمن لنفسه مكانة محترمة في التاريخ الى جانب الأبطال الوطنيين الكبار للشعوب. كل ذلك بفضل الطريقة الشجاعة والحكيمة التي يقود فيها سفينة دولته امام عدو بربري ووحشي ليست لديه شفقة، حيث قرر أن يسلب شعب اوكرانيا حريته الوطنية، وأن يقضي على هويته الثقافية.
لم يدخل لابيد، خلافا لزيلانسكي، بعد التاريخ. ولكن بالتأكيد يمكنه فعل ذلك وبشكل كبير فقط لو كانت لديه الإرادة لفعل ذلك. فمثلما حارب زيلانسكي ببطولة من اجل استقلال الشعب الاوكراني الوطني، يستطيع لابيد ايضا أن يحقق للشعب الإسرائيلي الاستقلال الوطني الحقيقي والكامل: استقلالاً من السيطرة المهينة على شعب آخر خلافاً لإرادته، مع إقامة دولة فلسطينية قابلة للعيش الى جانب دولة إسرائيل.
دخل لبيد السياسة من أجل أن يدفع قدماً بمبدأ الوسط السياسي المعتدل بديلاً صريحاً عن خطاب الأطراف ثنائي الاقطاب في اليسار واليمين. ولأن الخطاب الجماهيري والسياسي الإسرائيلي الساعي لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على أساس حدود 1967 وعاصمتها شرقي القدس يتم تشخيصه بصورة مفهومة ضمنا وحصرية كفكرة يسارية – وعلى الأغلب يتم وصفه كموقف يساري متطرف – فان هذه الرؤية كما يبدو لا تتساوق مع فكرة الوسط للابيد.
لكن الحقيقة هي أنه لا توجد فكرة أبعد، من حيث الروح والجوهر عن أي نوع من التطرف الايديولوجي، من الفكرة التي تقول إنه في هذه البلاد التي يوجد فيها شعبان لهما هويات وطنية جماعية واضحة يجدر أن تتم إقامة دولتين قوميتين. بالعكس، هذه الفكرة نموذج للاعتدال السياسي والعقلانية الوطنية، وليس بالصدفة أن من روجوا لها بتصميم، وتقريباً نجحوا في تجسيدها قبل بداية أيام ولاية بنيامين نتنياهو الثانية، كانوا رجال وسط واضحين: ايهود اولمرت وتسيبي ليفني وحاييم رامون. هكذا فانه منذ اختفاء حزب كديما خاصتهم من الساحة السياسية فإن فكرة الدولتين تنتظر زعيم الوسط الجديد الذي سيقوم بتبنيها. ولكن من الطبيعي أن هذا الزعيم سيكون لابيد؛ لأنه نقش على رايته وبشكل واضح جدا معارضة التطرف ومبدأ الاعتدال.
ليس فقط أن فكرة الدولتين تناسب رؤية الوسط والاعتدال لدى لابيد من ناحية أيديولوجية، بل أيضاً من الجانب السياسي – الشخصي فإن لابيد الآن هو الشخص الصحيح من أجل ترجمة هذه الفكرة الى اللغة العملية. من الجيد اليوم أن لابيد نجح بعد الانتخابات الأخيرة بحنكة قيادية تثير الانطباع في منع نتنياهو من الفوز برئاسة الحكومة، وقاد بلورة ائتلاف مركب ومتنوع، وقف في أساس حكومة التغيير، يقف من خلفه جمهور واسع جدا. يرى فيه مواطنون بصورة غير مشكوك فيها أنه زعيمهم. ويثقون به بشكل كامل وهم مستعدون للسير معه في السراء والضراء.
يدور الحديث عن جزء معتدل بالاساس من الجمهور الإسرائيلي، الذي رغم أنه لم يخرج عن أطواره من اجل محاربة الاحتلال – وهو مفهوم تحفظ عليه ويمقته – إلا أنه يعرف جيدا أنه في نهاية المطاف فان تقسيم هذه البلاد التي تقع بين النهر والبحر بين الشعبين اللذين يعيشان فيها هو الحل المطلوب والأكثر عقلانية للنزاع الوطني الممتد. هذا جمهور في الواقع لا يهتم بمصير الفلسطينيين، لكنه أيضا غير معنيّ بأي شكل من الأشكال في أن يقدم أبناؤه وبناته أرواحهم على مذبح الاستيطان. لذلك، سيعطي هذا الجمهور لابيد الدعم الكامل اذا صرح فقط بأنه يفكر في إعادة دولة إسرائيل الى مسار العملية السلمية.
إذا قرر لبيد في القريب السعي بشكل فعلي الى استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية بهدف تأسيس اتفاق الدولتين فيمكن أن يكتشف، للمفاجأة، أن الواقع الجغرافي والسياسي ناضج للدفع قدما بهذه العملية. خلافا للأسطورة التي تقول إن واقع الاستيطان غير قابل للعودة، التي ترافقنا منذ ثلاثة عقود تقريبا، فان الحقيقة هي أن مشروع الاستيطان تعرض لفشل مدوٍّ في مهمته الأساسية والمهمة جدا وهي استيطان قلوب معظم الإسرائيليين.
حقيقة أنه بعد أكثر من خمسين سنة على الاستيطان الذي قام به حنان بورات ومستوطنو غوش عصيون، ورغم الدعم الواضح والمستمر من قبل حكومات إسرائيل لعشرات السنين، فان نسبة المستوطنين من إجمالي سكان الدولة ما زالت اقل من 5 في المئة. على خلفية هذا الفشل فان الشائعات المستمرة حول موت حل الدولتين، التي تنشر طوال سنين صباح مساء من قبل اليائسين في اليسار، بدءاً من ميرون بنفنستي في نهاية الثمانينيات وحتى أ.ب يهوشع وروغل الفر وجدعون ليفي في السنوات الاخيرة، هي شائعات مبالغ فيها بالتأكيد. الدليل على ذلك هو اختراقة قبل الاتفاق المأمول الذي كان قاب قوسين أو أدنى في جولة المحادثات الأخيرة بين إسرائيل والفلسطينيين في إطار عملية أنابوليس في الأعوام 2007 – 2009.
في حين أن الهواية المعروفة لرافضي العملية السياسية من اليمين، ومن قبل بعض المتشائمين المتسلسلين من اليسار ومن الوسط – اليسار، هي تقديم عملية أنابوليس كجزء من مقاربة "لا يوجد شريك" التي ولدت في كامب ديفيد – أو نسيانها تماما كما لو كانت فصلا سياسيا غير مهم – وفي حقيقة الأمر كان يمكن في حينه لأولمرت ومحمود عباس الاقتراب اكثر من أي وقت مضى من تسوية شاملة بين الشعبين.
رغم الفجوات التي بقيت بين الطرفين، إلا أنه بفضل حوار حميمي وموضوعي بين القيادات، التي عرفت كيفية تطويره في عشرات اللقاء التي أجروها، سجل في فترة أنابوليس تقدم مهم جدا في العملية السلمية. إضافة الى ذلك، بفضل عمل سياسي أساسي وشاق لطواقم المفاوضات الإسرائيلية والفلسطينية تم التوصل الى تقدم في كل قضية من القضايا الاربع الرئيسية للنزاع: الجغرافيا، والحدود، والأمن، ومشكلة اللاجئين، والقدس.
على أساس الاتفاقات التي تم التوصل اليها صاغ أولمرت اقتراح التسوية السياسية، الذي أرسله الى عباس في ايلول 2008، وتضمن المواضيع التالية:
1- العودة الى خطوط 1967 مع تبادل للأراضي.
2- سيكون الحوض المقدس في القدس (بدون أحياء الطور وسلوان التي ستكون جزءا من الدولة الفلسطينية) تحت الوصاية الدولية، بدون سيادة سياسية لأي دولة.
3- في اطار مبادرة السلام العربية وعلى اساس فردي انساني فقط سيسمح بدخول ألف فلسطيني في العام الى إسرائيل لمدة خمس سنوات.
4- لن تحتفظ إسرائيل بقوات عسكرية في غور الأردن، في حين أنه سيتم نشر قوة عسكرية دولية على طول نهر الأردن في الطرف الأردني، وستفصل بين دولة الأردن ودولة فلسطين.
لم يرد محمود عباس في الواقع على اقتراح اولمرت، لكنه لم يرفضه في أي وقت من الأوقات. نبع تردده من الخوف من أن أولمرت، الذي وصل وضعه القانوني في حينه الى الحضيض بسبب قضايا الفساد التي كان متورطا فيها، لن يستطيع مواصلة قيادة العملية السلمية كما هو مطلوب. لا نعرف الى أي درجة كان هذا التردد مبررا، حيث إنه في نهاية المطاف يمكن فقط تخيل قوة تحريض اليمين التي كانت ستندلع حول مسألة شرعية رئيس الحكومة الخاضع للتحقيق معه في اتخاذ قرارات سياسية مصيرية. ولكن مهما كان الأمر، فان الوضع في حينه مثلما هو الآن، مبادئ مسار انابوليس بشكل عام واقتراح اولمرت بشكل خاص هي المعايير ذات الصلة التي على اساسها على إسرائيل أن تسعى لاستئناف المفاوضات السياسية مع السلطة الفلسطينية.
بالطبع حتى لو أنه أراد ذلك فمن غير المقبول من وجهة نظر لابيد الإعلان في إطار الحملة الانتخابية الحالية عن الطموح للعودة الى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، لأنه شئنا أم أبينا فان مسألة نتنياهو ستستمر بالتأكيد في دفع أي قضية سياسية أو اجتماعية أخرى الى الزاوية، وهذه هي الحال طالما أن نتنياهو مستمر في العمل على الساحة السياسية بسبب شخصيته القوية وتأثيره الكبير.
لكن مع الاختفاء المأمول لنتنياهو من الحياة السياسية فان من شأن طريق لابيد لاستئناف العملية السياسية ودفعها قدما – التي ستكون بالتأكيد طويلة ومليئة بالعقبات – أن تتضح لتبدو أنها أسهل مما تنبأ به أنبياء الدولة ثنائية القومية، حيث إن هذه الطريق سبق شقها من قبل على يد آخرين بجهد كبير. عندما سيأتي لابيد في القريب يجب علينا الأمل بحكومة مستقرة ومنتخبة، وكل ما سيكون عليه فعله من اجل اعادة إسرائيل الى هذه الطريق هو العودة الى طرح اقتراح اولمرت على الفلسطينيين وعلى الدول العربية، باعتباره خطة لاستئناف المفاوضات حول تقسيم البلاد واستكماله.
لا يتوقع أن تكون منظمة "حماس" "الارهابية"، التي لا تعترف بوجود دولة إسرائيل وتعارض تقسيم البلاد، عائقا جوهريا لا يمكن التغلب عليه في الطريق إلى الدفع قدما بحل الدولتين. حاييم رامون، الذي كان شخصا أساسياً في عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين قبل اتفاقات أوسلو وحتى بعد عملية أنابوليس، يعتقد أن "حماس" لن تكون عقبة. في مذكراته بعنوان "عكس الرياح" كتب رامون بأنه يمكن القضاء على حكم "حماس" بوساطة ضغط سياسي مشترك لإسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة. يبدو أنه بعد اتفاقات ابراهيم وازاء احتمالية حقيقية لاشراك السعودية في العملية السياسية الاقليمية فإن تفاؤل رامون ما زال ساري المفعول بصورة أكبر.
إذا كان الأمر كذلك فان يائير لابيد هو السياسي الإسرائيلي الوحيد الآن الذي يمكنه أن يعيد إسرائيل في المستقبل القريب الى مسار العملية السياسية، حيث لديه نظرية منظمة تحافظ على مبادئ الاعتدال السياسي، كما أنه يتحلى بصورة واضحة بمزايا سياسية ثمينة، التي هي حيوية لإدارة مفاوضات سياسية، بما في ذلك طول النفس واحترام الآخر والسحر الشخصي، ويحظى بدعم آخذ في الازدياد من قبل جمهور إسرائيلي واسع غير متعصب، هو بحاجة ماسة الى زعيم يعيد للشعب الإسرائيلي الأمل الحقيقي لسلام حقيقي والعيش باحترام متبادل مع الجيران الفلسطينيين.
سيكون في ذلك أكثر من قدر ضئيل من الرمزية التاريخية، إذا كان رئيس الحكومة الإسرائيلي الاول من وسط ابناء الجيل الثاني للكارثة هو الذي سيضع حدا للقتل المستمر لليهود في اعقاب النزاع الوطني الذي لا ينتهي. لابيد يمكنه اختيار هذه الطريق وهو قادر على ذلك. هل سيرغب لابيد بفعل ذلك؟ هل سينجح في التحرر من عناق الدب الشالّ لأنبياء الكذب لـ "شرك 1967" المزعوم، وأن يتحول الى البطل القومي الذي يحتاج اليه كثيراً شعب إسرائيل في هذا الوقت، بطل السلام؟. ستقول الأيام كلمتها.

عن "هآرتس"