قبل أيام وتحت عنون ( اخرجوا من هناك ) نشرت يديعوت أحرونوت كبرى الصحف التي تصدر في اسرائيل مقالا افتتاحيا تعلق فيه على الأزمة التي اندلعت بين روسيا وإسرائيل ، في أعقاب توجّه وزارة العدل الروسية إلى المحكمة بطلب وقف عمل الوكالة اليهودية لارتكابها مخالفات للقانون الروسي . في تلك الافتتاحية ذهبت الصحيفة بعيدا في موقفها عندما ادعت أنه ليس ليهود روسيا ما يبحثون عنه في `ذلك البلد ، لتوصي بحرارة الـ 120 حتى 150 الفا ممن تبقوا فيها ان يبدأوا على الفور بحزم امتعتهم وإعداد أنفسهم لكل وسيلة ممكنة للخروج من الدولة ، قبل أن تغلق بواباتها وقبل أن تستيقظ بكل شدتها اللاسامية الروسية السوداء . وقبل أيام كذلك وقّع نحو 40 نائباً يسارياً في فرنسا معظمهم من الشيوعيين ، مشروع قرار يدين نظام الفصل العنصري المؤسّسي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ، الأمر الذي أثار إدانة جمعيات عدّة أدرجت الخطوة ضمن معاداة السامية .
فما الذي يدفع اسرائيل والحركة الصهيونية وأنصارهما الى اشهار سيف معاداة السامية في وجه كل من ينتقد سلوك اسرائيل وامتداداتها في الخارج ، سواء منظمات لوبي الحركة الصهيونية او الوكالة اليهودية . وهل إشهار سيف معادة السامية قضية عادلة أم هي ذريعة لردع كل من يقف موقفا عادلا من الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على امتداد تاريخ نضاله الوطني . عدت هنا للبحث عن جذر المشكلة مستذكرا المسألة اليهودية وطرق البحث عن حلول لها في امتداد حركة التاريخ ، فاستوقفني موقف كارل ماركس من تلك المسألة كمدخل في البحث عن الإجابة . فعلى امتداد تاريخها كشفت المسألة اليهودية حسب كارل ماركس عن فساد المجتمع البرجوازي . فقد اتهمها بمسؤوليتها في آخر المطاف عن استلاب الإنسان لأنها نشرت تصورا عن العلاقة مع العالم تقوم على الحاجة الأنانية والتجارة غير المشروعة ، حيث أن المسألة اليهودية لا تتعلق بالدين . مستطردا أنه لا يبحث عن سرّ اليهودي في دينه ، وإنما يبحث عن سرّ الدين فِي اليهودي الواقعي ، داعيا الى التفكير في اليهودي الدنيوي الواقعي العادي وليس في يهودي الشابات حسب تعبيره . واقترح ماركس حل مسألة اليهود بالقضاء على إله مالهم ، أي الرأسمالية .
وبصرف النظر عن مدى الاتفاق او الاختلاف مع النتيجة التي توصل لها كارل ماركس ، علينا ان نلحظ أن الرأسمالية لم تكن عاملا حاسما في ظهور العداء لليهود او العداء للسامية ، فخط تطور الرأسمالية يشهد ان التطور الرأسمالي فتح الآفاق لحركة اندماج لم تكن شروطها قد توفرت من قبل ، وتحديدا في البلدان التي كانت فيها الرأسمالية تتطور بتسارع كما كان الحال في بريطانيا وفي بلجيكا وفي حدود كذلك في فرنسا . في هذه البلدان لم يشهد العداء لليهود حضورا لافتا على عكس البلدان الاوروبية الأخرى وخاصة في شرق اوروبا ، أي في مناطق الاستيطان اليهودي ، وهي المناطق التي لعبت فيها المؤسسات الدينية اليهودية وتحديدا ( سلطة الحاخامات ) دور الوكيل للأنظمة الاقطاعية وأنظمة القنانة ، أي وكيل سلطة البارونات والنبلاء ، الذين كان لهم موقفا سلبيا من التحولات الجارية باعتبارها تقوض نفوذهم وسلطاتهم المطلقة . وإذا كان كارل ماركس قد اقترح حلا للمسألة اليهودية يقوم على القضاء على إله مالهم ، أي الرأسمالية ، فإنني أزعم أن الصهيونية منذ نشأتها قد استبدلت صنم عبادتها الرأسمالي بصنم عبادة جديد هو العداء للسامية .
وبالعودة الى السياق التاريخي ، الذي ظهرت فيه معاداة السامية فمن المعروف ان الدور الاجتماعي الذي لعبته سلطة الحاخامات وامتداداتها المدنية في كثير من البلدان الاوروبية وخاصة التي كانت تحتضن مجتمعات يهودية كبيرة كان في تعارض واضح مع تلك الفئات الاجتماعية ، التي كانت مكبلة بأغلال سلطات البارونات والنبلاء في البلدان ، التي زحف التطور الرأسمالي على مجال سلطتها وأخذ يقوضها بالتدريج ولكن بثبات . وكان لهذه العملية بما صاحبها من تحرير لجماهير الفلاحين والرقيق الأقنان ليس فقط من سلطة الباروانات والنبلاء الاقطاعيين بل وكذلك من تسلط وكلائهم ، أثر في نمو حالة العداء ضد الوكلاء ، الذين كانوا يرهقونهم بالضرائب ويسلبون حقوقهم ويعمقون أزماتهم ويسهمون في تدهور اوضاعهم المعيشية . تلك حقيقة لا يستطيع المتابع المنصف تجاهلها خاصة لتاريخ البلدان ، التي انتشر فيها الاستيطان اليهودي في شرق اوروبا وغرب روسيا ، حيث كانت الجماعات اليهودية تعيش في مناطق شبه مغلقة بما في ذلك المدن والقرى او كانت تشكل النسبة الأعظم من السكان . في هذا السياق ظهرت اللاسامية في الاوساط الشعبية كردة فعل على التحولات الجارية في تلك المجتمعات وكان اليهود ، كيهود كبش فداء دون تمييز بين المصرفي والتاجر والحرفي والعامل والفلاح والمتسول اليهودي ودون ان تتمكن القوى الاشتراكية اليهودية التي تعاظم انتشارها من صد موجة العداء هذه .
وفي هذا السياق التاريخي ظهرت الصهيونية أيضا كتعبير عن نزعة قومية رجعية زائفة تعمل على حل المسألة اليهودية في اتجاه معاكس لحركة التنوير اليهودي ، التي شقت طريقها وأنتجت أدبا يهوديا متطورا باللغة اليديشية تحديدا يمهد لحركة اندماج في مجتمعاتها . لم يكن التوجه نحو الاندماج يروق للحركة الصهيونية ، التي تماهت مع الحركات القومية في البلدان الرأسمالية الناشئة وأخذت تسير في موازاتها ليس فقط في التركيز على النقاء العرقي بل وفي التفوق الذي يسمح لها بالتوسع نحو الخارج على حساب الشعوب المستهدفة بالاستعمار في سياق عملية التطور الرأسمالي . الحقوق السياسية والمدنية التي حملتها الثورات البرجوازية في اوروبا لم تكن تعني الشيء الكثير بالنسبة للحركة الصهيونية وموقفها من حل المسألة اليهودية ، بل هي وقفت موقفا عدائيا من الآفاق التي فتحتها تلك الثورات أمام جماهير اليهود ومهدت الطريق لاندماجهم في مجتمعاتهم وتخليهم عن دور الوكيل لسلطة النبلاء في انظمة جاء التطور الرأسمالي يحيلها الى ماض لا عودة إليه .
لنعد قليلا الى التاريخ القريب وليس البعيد في محاولة للوقوف على سياسة الحركة الصهيونية ، التي رأت في الاندماج عدوها الرئيسي ، وهي سياسة استخدمت العداء لليهود او اللاسامية أداة من أدوات السيطرة على الجماهير اليهودية للحيلولة دون عملية الاندماج . ظهور اللاسامية كما الحركة الصهيونية صوب ضربة قاسية لحركة التنوير اليهودية وحركة الاندماج . فقد نال يهود الامبراطورية النمساوية المساواة الكملة نهاية ستينات القرن التاسع عشر وكذلك كان هو الحال في مقاطعات المانية عديدة باستثناء بروسيا ، التي انتظرت حتى صعود فون بسمارك الى السلطة . منذ ذلك الوقت بدأت المجتمعات الاوروبية تشهد نشاطا مكثفا للحركة الصهيونية وهو نشاط كان له دور كابح لحركة الاندماج ودور في التذيل للدول الاستعمارية والبحث لها عن موقع في الصراع على المستعمرات بين الدول الاستعمارية .
آنذاك تأرجح ثيودور هيرتسل بين فلسطين وأوغندا او غيرها من مناطق مستهدفة بالاستعمار ، ولكن لاعتبارات تتصل بالموروث الديني القائم على الأساطير من ناحية ووضع الدولة العثمانية واطماع الدول الاستعمارية في ولاياتها العربية انحاز هيرتسل لفكرة استعمار فلسطين ، فيما كان زئيف جابوتنسكي اكثر وضوحا في التوجهات عندما دعا في العام 1912 الى إقامة دولتين يهوديتين ، الأولى في فلسطين بمواردها المحدودة والثانية في أنغولا بثرواتها المتعددة
كلا الزعيمين هيرتسل وجابوتنسكي ركبا موجة العداء للسامية كمنصة انطلاق نحو تحقيق الهدف ولم يجدا حرجا على الاطلاق لتحقيق غايتهم بطرق أبواب المعادين للسامية ، فتوجه الأول للبحث عن حل للمسألة اليهودية من خلال التحالف مع الوزير اللاسامي فاتيسلاف فون بلهيف ، الذي ارتكب مذبحة كشينيف ضد اليهود عندما كانوزيرا للداخلية في حكومة القيصر نيقولا الثاني ، فيما توجه الثاني ، أي جابوتنسكي ، لعقد اتفاق مع سيمون بتليورا ، الزعيم الاوكراني ، الذي ارتكبت قواته مذبحة راح ضحيتها مئة ألف يهودي عام 1918 .
أما أكثر النماذج إثارة للصدمة فقد كان احتفاء قادة مرموقين في الحركة الصهيونية بانتصار النازية على الليبرالية وفق تعبيرهم ، كما كان حال الدكتور يواكيم برينس ، الحاخام اليهودي ، الذي صعد في صفوف المؤتمر اليهودي العالمي ليصبح نائبا للرئيس والذي كان مقربا من جولدا مائير وأصبح أحد القادة البارزين في الحركة الصهيونية العالمية . فقد انساق الدكتور يواكيم برينس مع موجة التفوق العرقي على الطريقة النازية وألف كتابا باللغة الألمانية بعنوان ( نحن اليهود ) قال فيه : سوف يتضح ما تعنيه الثورة الألمانية للأمة الألمانية ( ثورة أدولف هتلر ) في النهاية لأولئك الذين صنعوها ورسموا صورتها . لقد فقدت الليبرالية حظوظها ، الليبرالية تلك الصيغة للحياة السياسية التي ساعدت اليهود على اندماج اليهود ، هذه الليبرالية تتعرض الآن للهزيمة .
وغير بعيد عن هؤلاء نجد أعدادا متزايدة من قادة الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل يسيرون عمليا على ذات الطريق ويتجاوزون السمة الشيطانية لنزعة التفوق العرقي ويطوعونها كل على طريقته في خدمة أهدافهم ، بدءا ببن غوريون مرورا ببنيامين نتنياهو وانتهاء حتى بيئير لبيد . فبن غوريون كان معجبا باليمين الفرنسي المتطرف المعادي للسامية والذي كان يتمسك بالجزائر فرنسية ، يكره اليهود في فرنسا ويرحب بهم في فلسطين ، ونتنياهو ، الذي طالما غازل اليمين المتطرف في اوروبا وتخصص في تحويل كل نقد للاحتلال الى طبعة جديد كاريكاتورية من بروتوكولات حكماء صهيون وكان وما زال معجبا بالرئيس الأميركي دونالد ترامب ، الذي يستقي الدعم من جماعات التفوق العرقي الأبيض ولا تخلو خطاباته من لغة لاسامية عدائية ، فيما يتنكر يائير لبيد بثوب الحمل ، يسير على خطى والده في كراهية الحريديم والعرب ويجزم في خطاب له في المنتدى العالمي لمكافحة السامية بأن اللاساميين بالدرجة الرئيسية يعارضون سياسة اسرائيل في قطاع غزة في مقاربة سخيفة ليس لها من هدف سوى اسكات أصوات كل من ينتقد سياسة حكام اسرائيل .