حرب لا هي ساخنة ولا هي باردة

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية



في سابقة غير مألوفة ودونما ضجيج، قامت إسرائيل بإغلاق ما يسمى غلاف غزة،  أول من أمس، ثم لم تكتفِ بذلك بل اجتمع الكابينيت خصيصا لمتابعة الحالة الأمنية فيما تسمى جبهة الجنوب، إضافة بالطبع لمستجدات التوتر الأمني في الجبهة الشمالية، بين إسرائيل وحزب الله، وكل ذلك يجري في ظل توتر عالمي، لم يقتصر على تداعيات استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.  
ويبدو أن إسرائيل التي حاولت أن تنأى بنفسها عن الصراع الأميركي/الروسي، في الملف الأوكراني، لم تنجح تماما في تجنب أن تجد نفسها في أتون التوتر، وعلى أكثر من جبهة وصعيد، فهي لم تستطع حتى اللحظة أن تبتلع «اللقمة» الفلسطينية، التي ما زالت شوكة في حلقها، كما أنها ما أن حاولت أن تقترب بـ»لقمة» الغاز في حقل «كاريش» خاصة من فمها، حتى وجدت النار تهب في وجهها، ورغم أن الوسيط الأميركي ما زال يحاول أن يصل بالطرفين اللبناني والإسرائيلي إلى اتفاق، إلا أن التصريحات المتواترة على الجانبين لا تهدأ، وبعد أن أمهل حزب الله المتفاوضين حتى منتصف آب الجاري، وفي حال عدم التوصل لاتفاق، فإن أي محاولة إسرائيلية لبدء استخراج الغاز من كاريش ستواجه بنيران صواريخ ومسيرات الحزب، التي لن تستثني هدفا لا بحريا ولا جويا إسرائيليا.
بالطبع إسرائيل تحاول أن تضع المفاوض اللبناني الرسمي تحت الضغط ليقبل بشروطها أو بمسارها التفاوضي، والذي يخرج كاريش من دائرة التفاوض، واعتباره حقلا إسرائيليا، وذلك من خلال الأمر الواقع، أي مواصلة عمليات إعداد استخراج الغاز من الحقل المذكور، دون انتظار نتيجة التفاوض والاتفاق، وهذا ما يرفضه حزب الله بالتحديد، وإسرائيل مقتنعة بأن هذا الحقل لها، وأنه خارج إطار طاولة التفاوض، حيث إنه سبق للبنان أن تقدم بمقترح يقايض حقل قانا بحقل كاريش، ويعتبر الأول من نصيب لبنان والثاني من نصيب إسرائيل، ولهذا فقد أظهرت إسرائيل كل الغضب تجاه رفع حزب الله للعصا الغليظة في وجه عملية التنقيب في كاريش، وآخر التصريحات النارية للإسرائيليين، هو ما هدد به الوزير أفيغدور ليبرمان، حيث توعد زعيم «إسرائيل بيتنا» حزب الله في حال استهدافه لمنصة كاريش بمحو الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث معقل الحزب بأكملها!
لا يظهر ذلك التهديد النزعة الفاشية الإسرائيلية وحسب، حيث إن الضاحية الجنوبية لبيروت هي حي سكني مدني وحسب، لكنه يظهر في الوقت ذاته حنق دولة الاحتلال، التي أطلقت العنان لقواتها العسكرية باقتحام المدن الفلسطينية، خاصة جنين ونابلس، لتقتل وتعتقل من تشاء من الشبان الفلسطينيين، وآخرهم بسام السعدي، القيادي في الجهاد الإسلامي، والذي على خلفية اعتقاله، خشيت إسرائيل من رد صاروخي من قطاع غزة، فقامت بإغلاق غلاف غزة، أي أنها فرضت طوقا أمنيا، حول مدن الغلاف، شلت من خلاله الحركة فيها، حيث هنا بدا واضحا أن القبة الحديدية غير آمنة، أو غير كافية لتوفير الطمأنينة والراحة لدولة مارقة، تدرك في أعماقها أنها ملاحقة من عدالة السماء على الأقل، تلك الحالة علق عليها الناطق السابق باسم الجيش الإسرائيلي رونين مانيس، قائلا إن الجهاد الإسلامي كسب نقاطا دون إطلاق قذيفة صاروخية واحدة، وإن ذلك الطوق غير المسبوق قد تقرر بناء على إنذار، حيث لم تكتفِ إسرائيل المرعوبة بذلك، بل توسلت كلا من مصر وقطر التدخل، ولهذا ذهب وفد حماس للقاهرة، وذلك للإبقاء على حالة الهدوء في غزة.
ويبدو أنه ليس الجهاد وحسب هو من كسب النقاط، بل حماس أيضا كسبت نقاطا في ملف تبادل الأسرى، حين انطلقت التظاهرات في مدن جنوب إسرائيل تطالب بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المعتقلين لدى حماس، وذلك بمناسبة مرور ثمانية أعوام على وقوعهم في الأسر، وبعد تجاهل رسمي إسرائيلي متواصل، رغم مبادرات حماس المتتابعة بالخصوص، فقد ظهر جليا أن تكتيك حماس الأخير، والذي بدأ قبل عامين بمبادرة يحيى السنوار، وتضمن شريط الفيديو الذي يظهر هشام السيد مريضا، ثم تصريح أبو عبيدة الأخير، المتضمن أن الغارات الإسرائيلية قبل عام، قد استهدفت احد المقار التي يوجد فيها أسرى، حيث استشهد أحد المجاهدين القائمين على حراستهم، ظهر أخيرا أن تكتيك حماس وضغطها على الحكومات الإسرائيلية لإنجاز ذلك الملف قد بدأ يؤتي أكله.
ويبدو أن حروب إسرائيل وأميركا في هذه الفترة التي ترافق نهاية نظام عالمي، وتحديد معالم نظام عالمي آخر جديد، هي حروب غير معروفة من قبل، فحتى الحرب العالمية الثانية، كانت الحروب هي عسكرية بين الجيوش، فيما كانت حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية، بالنظر إلى أن الدول العظمى، والعالم دخل المرحلة النووية، أي بدافع الردع النووي تجنبت الدول العظمى، خاصة أميركا والاتحاد السوفييتي المواجهة العسكرية المباشرة، فكانت الحروب بينهما تجري بالنيابة، فإذا كانت أميركا متورطة عسكريا مباشرة في فيتنام، قام الاتحاد السوفييتي والصين بدعم فيتنام بالسلاح والعتاد والدعم السياسي واللوجستي دون المشاركة بالحرب، وإذا كان السوفييت متورطين بالحرب مباشرة في أفغانستان، قامت أميركا بدعم المجاهدين بالسلاح والدعم السياسي وغيره، وهكذا.
أما خلال تدشين النظام العالمي الجديد، أي عشية انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، فقد كان بمقدور أميركا، زعيمة النظام العالمي الجديد مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومطلع الألفية الثالثة، أن تجر عدداً كبيراً من الدول، بلغ في حالة شنها لحربين على العراق، ثلاثين دولة، باسم القانون الدولي، ونفذت بذلك حروبا ساخنة، بعد أن اقتصرت الحرب بين المعسكرين طوال نحو خمسة عقود، أي منذ العام 1945، حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي على ما سميت الحرب الباردة.
هذا ما يحدث على جبهتي غزة وحزب الله، من توتر متواصل ومن احتكاكات عسكرية متواصلة ومتتابعة دون اندلاع حرب حاسمة أو فاصلة، والهدف من ذلك استنزاف قدرات الأطراف المتحاربة، أما ما يحدث على جبهة الصين وتايوان بعد زيارة نانسي بيلوسي، فقد يكون على طريقة ما يحدث في أوكرانيا، أو شيئا آخر، كذلك ما قد تصل إليه الأمور بين إيران وإسرائيل وليس بين إيران وأميركا، من معارك أمنية، تستهدف استطالات الطرفين خارج حدود بلادهما، كذلك تشمل عمليات اغتيال وما شابه، إضافة بالطبع للحرب الاقتصادية الطاحنة، التي تستند إلى العقوبات الدولية، كل ذلك يعتبر مظاهر للحرب ما بعد الحروب الساخنة والحرب الباردة التي شهدها العالم على المستوى الكوني، ولن يطول الوقت حتى تتضح صورة هذه الحرب التي يمكن اعتبارها حربا بكل معنى الكلمة، رغم أنها لا هي ساخنة ولا باردة، بل متقطعة، ومتواصلة، وتشمل إضافة للحرب التجارية والاقتصادية، الحرب الإلكترونية باستخدام الهكرز، بتدمير مواقع رسمية للخصوم والأعداء، والحصول على معلومات أمنية لهم، وإحداث حالة من الإرباك للدولة والمجتمع.