«إنه لعب بالنار».. كان ذلك تحذيرا صينيا من تبعات زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان.
بدت الزيارة بتوقيتها ورسائلها أقرب إلى استفزاز مقصود للتنين الصيني لأهداف غير مقنعة، أو متماسكة.
لم تضف عمقا جديدا على ما وصفته بيلوسي بـ»الشراكة والصداقة» مع الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي بقدر ما أثارت تساؤلات جدية عن مستقبلها المنظور.. ومتى تعود وكيف إلى الوطن الأم؟!
منذ سبعينيات القرن الماضي استقرت العلاقات بين واشنطن وبكين على قاعدة الاعتراف بوحدة الأراضي الصينية فيما عرف بسياسة «صين واحدة» دون أدنى حسم لمستقبل جزيرة تايوان.
كان ذلك غموضا استراتيجيا محسوبا، حفظ للصين حقها الثابت في وحدة أراضيها وأبقى للولايات المتحدة بالوقت نفسه على الأمر الواقع، أو أن تكون تايوان تحت مظلة نفوذها، كأنها حاملة طائرات بالقرب من العاصمة الصينية لفرض مصالحها وصيانة تحالفاتها في المحيطين الهادئ والهندي.
لسنوات طويلة امتنع المسؤولون الأميركيون الكبار عن زيارة تايوان خشية إفساد ذلك الغموض الاستراتيجي، كأنه إقرار بالحقيقة أن الصين واحدة دون قرار يغير وضعية الجزيرة.
ما الذي استدعى، الآن، زيارة بيلوسي؟
هذا سؤال مربك في توقيته، أسبابه ودواعيه.
لم يخف وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرجي لافروف حيرته، قال، إنه لا يفهم أسباب استفزاز الصين، الآن!
بدت حيرته في محلها تماما.
بالتوصيف السياسي فإن الصين حليف استراتيجي مفترض لروسيا في المعادلات الدولية المتغيرة، لكنها لم تنخرط في الحرب الأوكرانية بأي صورة مباشرة.
اعترضت على التصعيد المتوالي للتحشيد العسكري والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا من قبل التحالف الغربي وحلف «الناتو» دون أن تبدو طرفا مباشرا في الأزمة الدولية المتفاقمة.
دعمت موسكو بقدر محسوب بلا تورط عسكري، أو صدام دبلوماسي، ولم تحاول أن تستثمر في فوضى البيئة الدولية لغزو تايوان وضمها بقوة السلاح ــ على ما تكهنت أطراف غربية عديدة.
إحدى الفرضيات الرئيسة لاستدعاء «العدو الصيني» إلى واجهة الأحداث الملتهبة باسم «الصداقة والشراكة مع تايوان»، أو بذريعة دعم الديمقراطية فيها، ضخ دماء جديدة من الثقة في شرايين الرأي العام في أداء الإدارة الأميركية بأثر إخفاق مشروع «إذلال روسيا» واصطيادها في المستنقع الأوكراني والأزمات الاقتصادية الارتدادية، التي تعاني منها المجتمعات الغربية.
بتلخيص ما فإن الزيارة عمل استباقي للانتخابات النيابية الأميركية خريف هذا العام، والتي تشير استطلاعات الرأي العام إلى أنه قد يلحق بالحزب الديمقراطي هزيمة كبيرة، تخسر بيلوسي بمقتضاها مقعدها على رأس المجلس النيابي، ويصبح الرئيس جو بايدن شبه عاجز عن تمرير القوانين التي يقترحها.
رغم ما أبدته إدارة بايدن من تحفظات خجولة على زيارة بيلوسي مؤكدة التزامها بسياسة «صين واحدة» إلا أنها موضوعيا تنتظر أن تسفر عن تحسن نسبي لفرص الحزب الديمقراطي في الانتخابات الوشيكة.
بيلوسي رددت الالتزام نفسه بسياسة «صين واحدة» دون أن تدرك قدر التناقض بين ما تقول وما تفعل!
بدواعي استفزاز زيارة بيلوسي وجدت الصين نفسها مدعوة للرد بأقصى ما تستطيع دون أن تتورط فيما لا تريده.
حاصرت قواتها العسكرية الجزيرة من جميع الجهات، فرضت ما يشبه الحصار البحري والجوي عليها، وأجرت مناورات بالذخيرة الحية، فيما تحركت بالوقت نفسه مقاتلات وسفن أميركية إلى المنطقة تحسبا لأي اشتباكات محتملة.
كان ذلك لعبا بالنار، قد تفلت شراراتها ويدخل العالم كله إلى جحيم حرب نووية.
لم يكن ممكنا أن تصمت الصين دون رد يبدو قويا ومحدودا.
من المستلفت ــ هنا ــ ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة جمعته عبر «الفيديو كونفرانس» مع الرئيس الأميركي جو بايدن قبل الإعلان عن زيارة بيلوسي من أن: «علاقات الدول لا يجب أن تصل إلى مرحلة الصدام العسكري».. وأن «العالم لم يعد مكانا آمنا ولا هادئا وما يحدث في أوكرانيا لا أحد يريده وأن يراه مرة أخرى».
كانت تلك رسالة صينية مبطنة أنها لن تغزو تايوان ولا تسعى إلى صدام عسكري مع الولايات المتحدة.
ولا كانت إدارة بايدن بوارد أن تفلت منها ألعاب النار لكنها جازفت حيث لا تصح أي مجازفة.
لا يعتقد أحد جادا أن الصين ذاهبة بأي مدى منظور إلى أي مواجهة عسكرية، فهي دولة لديها مشروع يعمل على نقل اقتصادها إلى المرتبة الأولى دوليا، تطلب الانفتاح على الغرب والشرق الأوسط وإفريقيا وحيث تستطيع أن تمد خيط مصالحها دون مشاحنات أو صدامات.
الحكمة المتوارثة عند الصيني جعلته مستعدا، بطول نفس وقدرة على الصبر، أن ينتظر جثة عدوه طافية عند حافة النهر.
بطول النفس وتراكم الخبرات ضخت أفكارا جديدة لرفع معدلات النمو وجذب الاستثمارات واقتحام الصناعات التكنولوجية واختراق الأسواق البعيدة، والوصول إلى منابع البترول في إفريقيا بسياسة حاولت أن تزاوج بين ضرورات الانفتاح الاقتصادي والتزامات التوجه الاجتماعي عرفت باسم «اقتصاد السوق الاشتراكي».
انتقلت الصين إلى آفاق القوى العظمى دون أن تنتقم من الماضي الثوري، أو تتنكر لمعاركه، أو تنسى فضل «ماو تسي تونغ» في النقلة الكبرى التي وصلت إليها.
عند رحيل «ماو» مرت الصين بفترة اضطراب قبل أن تحدد بوصلتها إلى المستقبل.
بعد صراع على السلطة مع ما سميت «عصابة الأربعة»، بينهم أرملة «ماو»، أمسك «دينغ هسياو بنغ» أوثق رجال «شواين لاي» رجل الدولة العتيد بمقاليد السلطة والقوة.
كان «شواين لاي» قد رحل قبل «ماو» بوقت قصير.
لم يتول «دينغ هسياو بنغ» أي منصب رسمي، لا رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء، مكتفيا برئاسته للجنة العسكرية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.
بقدر ما كان معنيا بالملف الاقتصادي وضرورات التقدم فيه بثبات فإنه رسخ فكرة المؤسسة.
لا يمكن فهم السلوك السياسي الصيني إذا لم ندرك عمق تأثير حكيمها الأكبر «كونفوشيوس» على الشخصية الصينية.
«لسنا دولة عظمى».. هذه عبارة تتردد تقليديا على ألسنة المسؤولين والمثقفين الصينيين.
إنها استراتيجية التراكم وانتظار اللحظة المناسبة للنقلات النوعية وعدم السماح لأي استفزازات أن تحرف بوصلتها السياسية.
