«الضد» فيروس خطير؟!

حجم الخط

بقلم توفيق أبو شومر

 

 

 

اعتاد كثيرون في فترات الهدوء القليلة التي تفصل بين الحروب في غزة أن يسخروا من وعود السياسيين ورجال الأحزاب، لأنهم ظلوا يُهددون صباح مساء بشن هجمات صاروخية على إسرائيل ولكنهم لم يُطلقوا صاروخا واحدا! فهم في نظر هؤلاء الساخرين جبناءُ مأجورون لم يُوفوا بوعودهم حتى الآن! الغريب أن أحد هؤلاء الساخرين كان مواظبا على الاتصال بي خلال كل الحروب التي شنها الاحتلالُ على غزة، كانت أمنيته الوحيدة؛ أن يوقف رجالُ الأحزاب إطلاق الصواريخ، كان يردد: "فليوقفوا إطلاق (المواسير)، كفانا ما أصابنا من خراب ودمار وقتل!".
سأظلُّ أذكرُ موقفا يؤكد انتشار ظاهرة هذا التناقض عند إحدى الشخصيات التي أعرفها عندما قال لي ساخرا قبل عدة شهور في يومِ مطرٍ شديد: هل رأيتَ رجال البلدية وهم ينصبون قفصا خشبيا صغيرا على مجرى سيل صغير، ليتمكن العابرون أن يجتازوا السيل؟! واصل هازئا: هذا المشهد أخجل مهندسي الصين وقرروا الحضور إلينا لاقتباس هذا الاختراع الفريد!
ظنَّ هذا الساخر أنني سأبتهج بما قال من سخرية جارحة تشوه العاملين الكادحين، وهم يقومون بواجبهم وفق ما يملكونه من قدرات وإمكانات، ولكنه عندما شاهد عدم الرضا في نبرة صوتي، ولم يظفر بتعليقٍ ساخر ليزداد مُتعة، حاول تغيير مسار الحديث وشجب تقصير البلدية وفشلها لأنها أعلنت استعدادها لمواجهة الكوارث!
هذا (الساخر) هو نفسه كان يجلس أمام المدفأة وهو يسكن على بعد أمتار قليلة من هذا السيل، يلعب بأنامله على لوحة مفاتيح كمبيوتره الخاص، لم يتطوع حتى لمساعدة صغار السن من اجتياز السيل أمام بيته العامر!
أعرف شخصا آخر مصابا بهذا الفيروس اعتاد أن يشجب كلَّ الذين يفرحون بإزعاج غيرهم، حينما يطلقون المتفجرات في الأفراح والمناسبات، وكان يتمنى أن تُفرض عقوبات رادعة على بائعي هذه المتفجرات وعلى مطلقيها، حتى أنه أعرب أثناء لقائه مع مسؤول الشرطة عن رغبته في فرض عقوبة السجن على كل من يُطلق المتفجرات ويزعج الجيران، هو نفسُه تخلى عن عقيدته السابقة عندما اجتاز ابنُه الثانوية العامة هذا العام، منح أبناءه المال لشراء المتفجرات وغض النظر عن إزعاج الجيران من الصباح إلى المساء، قال وهو يبتسم لجيرانه:  فليفرحوا بالنجاح!
ومن مشابهي هذه الشخصية شخصيةٌ أخرى اعتادت الاحتجاج على فوضى الأسواق، لأن البائعين يغلقون الأسواق، ويعرقلون حركة السيارات، ثم نسيَ بعد فترة وجيزة احتجاجه السابق، بعد أن رأى أفرادا من الشرطة، يزيلون العربات المخالفة من الأسواق لفتح الشارع ويعتقلون المخالفين، قال وهو يشير بيده إلى أفراد الشرطة: إنهم يطاردون البائعين المساكين، يحرمونهم من أرزاقهم، يعتقلونهم، إنهم مجرمون!
كذلك تمنى أحد المصابين بهذا المرض تنظيف الشوارع من المتسولين، لأن المتسولين يُسيئون لسمعة الوطن، هو نفسه احتجَّ بعد فترة وجيزة على شرطي اعتقل أحد المتسولين من الشارع، قال في صفحته الإلكترونية: ها هم رجال الشرطة تركوا واجباتهم الرئيسة وأصبحوا يعتقلون المتسولين الفقراء، اتركوهم يتسولوا!
إن هذا التناقض ليس هو النقد التصحيحي المطلوب لتحقيق الإنجازات وتعديل المسار، بل هو نقدٌ استشفائي مَرَضي، ينتشر في المجتمعات المريضة العاجزة عن التغيير وإقرار القوانين، هو فيروس خطير يتفشى بسرعة عبر وسائل الاتصال الرقمية، غايته الرئيسة إحباط بقايا العاملين المخلصين، وإفشال كل الجهود التطوعية المخلصة خوفا من التعرض لهذه السخرية المرضية، ومن أخطر نتائج هذا الفيروس أنه ينشر مرض اليأس والقهر والإحباط وهو مرض الأوطان المهزومة بلا حروب عسكرية، الأوطان العاجزة عن اللحاق بركب الحضارة، الأوطان الغائبة عن المنافسة الرقمية والتكنولوجية!
سأظل أردد قول الشاعر الراحل مظفر النواب: "قتلتْنا الردة، قتلتنا أنَّ الواحدَ مِنَّا يحملُ في الداخل ضِدَّه".