لم تطُل هذه الجولة الأخيرة (التي لن تكون الأخيرة) من العدوان الإسرائيلي على غزة، التي أعقبت الاعتماد والدعم الأمريكي الواضح، الذي لا لبس فيه من قبل بايدن شخصياً أثناء زيارته، فقد سارع الطرفان إلى الاستجابة للوساطة المصرية لوقف إطلاق النار، وعلى قصر مدة السجال والتراشق النيراني، ولئن تجاوزنا رطانة الحماسات التي فاضت بها بعض الصحف والمقالات عن بسالة المقاومة وفدائية الشعب الفلسطيني (وهما كذلك بالفعل) والصمود رغم الحصار، فثمة بعض الملاحظات التي سأبادر بتقرير كونها مزعجة آناً ومؤسفة آناً آخر.
مأساة الوجود الفلسطيني
لئن كنت دائم النقد سئماً من رطانة شعارات العزة والإباء والعنتريات التي ما قتلت ذبابة، لكنها أوردتنا بجدارةٍ واقتدار منابع الهزيمة، ولم تأتِ بنصرٍ أو خير من قبل أشاوس الأنظمة العربية سابقاً ولاحقاً، فإنني إذ أكتب عن مأساة الوجود الفلسطيني فلست بمنساقٍ البتة إلى أية رطانةٍ مماثلة، أو كتابة موضوع إنشاءٍ مدرسي للمرحلة المتوسطة، بل أصف واقعاً موضوعياً، فشرط الوجود الفلسطيني في غزة تحت الحصار معذبٌ تماماً ومهين، وحين يُحكم إغلاق كل المنافذ وردم الأنفاق تكاد الحياة أن تستحيل، فيجوع الناس ويعطشون، ناهيك من غياب الأدوية والكهرباء وشتى الخدمات.
إن الشيء الوحيد الإنساني في أوضاع غزة هو إرادة الشعب الفلسطيني وتشبثه بإنسانيته وحقه فيها وفي الكرامة، في رفضه أن تُسلب كما سلبت الأرض والاستقلال السياسي. قرابة المليونين يعيشون في القطاع نصفهم بلا عمل، وبعد كل جولةٍ من الدمار، لا ينصرفون لدفن شهدائهم فحسب، بل للملمة حاجياتهم المهشمة المكسرة وإعادة البناء، تحت حصارٍ لم يزل وإن خُفف قليلاً بما يسمح بالكاد لسد الرمق ومنع الانفجار، وهو الأهم؛ أي أن ظروفهم لا تزداد إلا قسوةً كأنهم يعيشون مكبلين بسلاسل وأشواكٍ معدنية لا تزيدها الحركة، أي حركة، سوى انغراس وجرح لأجسادهم. لذا، فليس من عجب أن نقرر أن الناس مرهقون، ففي كل مرةٍ يتبين كم هي باهظةٌ التكلفة، خاصةً في ظل حاضنةٍ إقليمية تصر على عقابهم وتركيعهم و(هو ما سأتناوله بالتفصيل لاحقاً)، ولعل ذلك أيضاً قد يفسر بعضاً من الظواهر المزعجة، إذ على ضوء اصطياد قائدين من الجهاد الإسلامي، فليس من قبيل التجني أو المبالغة أن نصل إلى استنتاجٍ أن هناك اختراقاتٍ أمنية إسرائيلية معتبرة وخطيرة، وعلى الرغم من كون هذه ليست المرة الأولى التي تقف فيها حركة حماس على الحياد حين تُستهدف حركة الجهاد، وعلى الرغم من تقديرنا لمسؤوليتها الثقيلة في ظل ظروف القطاع وبعدنا التام عن المزايدات، إلا أن ذلك الانقسام بين فصيلين محسوبين على تيار المقاومة، لمما يستوقف ويستدعي التفكير والتساؤل عن مستقبل المقاومة.
الحاضنة الشعبية والإقليمية
ليس بعيداً عن التصور مع استمرار النزيف والأوضاع الاقتصادية الصعبة، أن تقل شعبية حماس، ومع الإرهاق، وهو أمرٌ بشري وطبيعي، القابلية أو المقدرة على المقاومة أو استفزاز إسرائيل، لكن السبب الحقيقي، أو المشكلة الحقيقية إذا شئنا الدقة، في مأساة الشعب الفلسطيني يكمن في ضعف وانكفاء وتسليم المحيط العربي، فما الوضع الفلسطيني المتردي والمزري سوى انعكاسٍ لهزال الأنظمة ورداءتها وهزيمة المحيط العربي، خاصةً هزيمة الثورات. منذ بداية الصراع وانتزاع الأرض وتهجير سكانها لم يخفَ أبداً فارق القوة بين ذلك التكوين الاستعماري المتطور المتمثل في الكيان الصهيوني وخصومهم من العرب مجتمعين الذين لم يبرحوا القرون الوسطى بعد، ولم يحسموا أمرهم في العديد من الأمور، وفي حالة الشعب الفلسطيني فليس هناك مجال لمقارنة تفاوت القوة من الأصل؛ إن اعتماد الفلسطينيين على الدعم العربي حتمي وفاصل في نهاية المطاف، قد يتشبثون بمواقعهم عن طريق المقاومة والتضحيات الجسيمة، واستحداث أساليب وأسلحة مقاومة كالصواريخ، إلا أن الواقعية تفرض علينا التسليم بأن التحرير من البحر إلى النهر متعذرٌ (إن لم يكن مستحيلاً) بغير احتضان ودعم المحيط العربي للمقاومة، فما بالك وهذا الدعم ليس غائباً فحسب، بل إنني لا أتورع عن القول بوجود مؤامرة لتصفية المقاومة أو استغلالها كورقة ضغط لتحسين شروط العلاقة وتوازن القوة بين إسرائيل والأنظمة العربية المحيطة بها لا أكثر؛ وقد زاد الوضع سوءاً الآن إذ نجد تطوراً وانحيازاً نحو تقدير وتثمين قدرات إسرائيل العسكرية والتقنية، وما تستطيع القيام به في حربٍ ضد إيران التي صارت العدو المشترك، ومن ثم السعي لاستيعاب الكيان الصهيوني في المنطقة كمكونٍ مستقر، الأمر الذي لم يكن ليتصوره الكثيرون في أشد كوابيسهم قبحاً وأكثرها رعباً.
الشيء الوحيد الإنساني في أوضاع غزة هو إرادة الشعب الفلسطيني وتشبثه بإنسانيته وحقه فيها وفي الكرامة، في رفضه أن تُسلب كما سلبت الأرض والاستقلال السياسي
أما الشعوب العربية، فمقموعةٌ مفقرةٌ مهجرةٌ مهزومة، مشغولةٌ ببؤسها الخاص وانسحاقها بحثاً عن الكفاف تحت وطأة الأنظمة الثقيلة المبهظة، لم يعد لديها البراح الإنساني ولا الفسحة للتعاطف، خاصةً وقد أُفسد وعيها ولعل المثال الأقرب الشعب المصري الذي يصور له إعلام النظام أن حماس والشعب الفلسطيني هما العدو لا إسرائيل.
العادي والطبيعي ـ ابتذال العنف
لعل أخطر ما نواجهه شعوباً في حياتنا اليومية الآن وما يهدد الوجود الفلسطيني المحاصر هو ما أسميه بـ»تطبيع» العنف والعدوان عليه، حيث يصبح طبيعياً ومألوفاً تماماً أن يتعرض أبناء غزة بصفةٍ دورية لحملةٍ عدوانيةٍ إسرائيلية، نتيجة أي مناوشة أو معلومةٍ تنذر بقرب وقوعها، أو اغتيالٍ يُخطط له، أو ليكتسب رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد مسوغات وظيفته الأمنية، فيترسخ وضعه ويوقف توجيه اللوم إليه كما هي الحال مع لابيد، فتصب ماكينة الحرب الإسرائيلية جام ترسانتها من البر والبحر والجو، فيموت من يموت ويشرد من يشرد وتدمر البنية التحتية الفلسطينية وسط تجاهل وصمت عربيين، ثم يُوقف إطلاق النار استجابة لوساطةٍ مصريةٍ أو أردنيةٍ إلخ، ثم نعيد الكرة، ومع الوقت وتعمق انخراط الأنظمة العربية في التطبيع والغرق في الديون، ولا مبالاة وهزيمة الشعوب تصبح تلك الجولات الدورية من تبادل النيران بين العرب وإسرائيل أمراً عادياً تماماً ومألوفاً، وتضحى مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني وليس غزة وحدها «غيتو» مزعجاً، لا أكثر، ومن يدري، فقد تتصدى الأنظمة العربية نفسها لتطويع وقمع الفلسطينيين، وإجبارهم على التزام الصمت.
الشعب الفلسطيني كان ولم يزل بخير، مستعداً لتقديم القافلة تلو الأخرى من الشهداء، وتحمل ألم الفقدان والدمار، إلا أن الاستنتاج الذي وصل له الضباط المصريون عقب هزيمتهم في 1948 لم تزل قائمة: الحرب لم تخسر في فلسطين، بل في القاهرة حيث فساد الحكم، فكذلك الحال الآن، وإن على نطاقٍ أوسع: إن القضية الفلسطينية يفرط فيها وتباع في العواصم العربية، ومن دون تغييرٍ حقيقي، خاصةً في مصر وقدوم نظامٍ يحتضن المقاومة ويدعمها، يناصب إسرائيل العداء الذي تستحقه فيفك الحصار وينعش الشعب الفلسطيني، فللأسف سيستمر النزف دورياً، من دون تحريرٍ للأرض أو مكاسب كبيرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
كاتب مصري