ما أشبه الليلة بالبارحة،
عدوان متواصل، وصمود متواصل.
منذ معركة الفرقان/ والعصف المأكول/ والبنيان المرصوص/ وحتى وحدة الساحات،
منذ مجازر السبت الأسود/ ومسجد إبراهيم المقادمة/ ومدرسة الفاخورة/ وووو...(2009)/ ومجازر الشجاعية/ وخان يونس/ ووو...(2014)/ ومجازر رفح/ وجباليا ووو...(2022)،
تحكي غزة؛ مدنها وقراها ومخيماتها،
تحكي نساؤها/ وشيوخها/ وأطفالها،
تحكي جدرانها/ ونوافذها/ وساحاتها/ وملاعبها/ ومساجدها/ وكنائسها،
تحكي مدارسها/ وجامعاتها/ ومستشفياتها/ وطواقمها الطبية،
يحكي شهداؤها/ وجرحاها/ وصحافيّوها/ ومسعفوها.
تحكي غزة بدمها،
وتحكي غزة ببسالتها.
*****
"أنا إيمان حسن القطراوي، مواليد عام 1982، ساكنة في مخيم النصيرات- قطاع غزة، بَحكي (من مستشفى المدينة الطبية في عمان) (عن اللي حصل معي يوم العدوان على غزة صيف 2014).
كان 21/7، كنا في رمضان، وبِدّي أطلع على شغلي، أولادي حكوا لي: يا ماما ظلّي عنّا في البيت، كان الكبير 10 سنين، والصغار التوأم سبعة، حكيت لهم: إحنا لازم نداوم لإنّه إحنا بنِسعِف، وبيجوا لنا شهدا وجرحى. ابني الكبير قال: طيب يا ماما ديري بالك على حالك.
توقعت إني أنقصف في أي وقت، ما كان يتأمَّن لنا سيّارات إسعاف، لإنّه ما كانوا يلاقوا سيّارات إسعاف للجرحى، كنا نركب تاكسي، ربنا يسّر الأمور ولقيت سيّارة، ورُحِت على شغلي. طيّارات كانت في الجو والدبابات مستنفرة، وكان عند أي ضربة بنتوقع يا إما F16، أو دبابة، أو حتى ممكن بوارج، كان الضرب عشوائي، وصلت المستشفى، ورُحت على قسم العناية المركّزة عشان أستلم. في قسمي كنت لَحالي، معي ثلاث شباب بس كانوا غايبين، لإنّه اللي بدّه يطلع بِطلَع بأعجوبة. كان القصف بجانب المستشفى، كل الأبراج والأحياء السكنية بجنب مستشفى الأقصى انقصفت. كنت أشوف الشهدا من فوق بلكونة القسم، شغلة ما بتنوصف! أطفال مقطّعين أشلاء، بتر في الأطراف، جثث بدون راس، ما بعرف كيف بُضرُبوا؟! ما عندهم أولاد؟ الإنسانية وين؟!
كان معظم اللي بِوصل لنا على المستشفى سيارات مَدنية، لإنّه الإسعاف مش قادر يوصل! حتى فيه عنا مُسعفين كثير استشهدوا، ومُسعفين انبترت أطرافهم، والحمد الله رب العالمين، فيه حادثة الشهدا التنين اللي انحرقوا بالإسعاف، كانوا في بيت حانون، ما قدروا يطلعوا.
طِلع ممرِّض من الإسعاف على الطابق الثاني، كانت العناية هناك، فحكى: لازم الكلّ يِخلي المستشفى، فسألته ليش؟ حكى: فيه قصف مدفعية على الباطني والجراحة رجال، فاستنفرنا، وصرنا نخلي بالمرضى، في أثناء إخلائي، كنت مارقة من مواجهة مبنى الجراحة رجال، القصف كان مُركّز على القسم، فنزلت منه شظايا، وشظية إجت على إيدي اليمين، فقطعت الشريان المغذّي، وحرقت الجلد، وعملت تهتك في العظام وفي الأنسجة، وتلف في العصب، فأوّل شغلة قويت، مسكت إيدي وأنا عارفة إنها مبتورة، وصرت أمشي ألحق الشباب، ما بِدّي التمريض يجيني، لإنّه خايف في المنطقة اللي أنا فيها يصير قصف، فصرت أمشي وراهم، وإحنا نازلين بنِخلي، انتبهوا عليّ زُملائي، فشالوني، وحتى في دكتور كانت معه قزازة مي، لقي جرحي لسّه مولعة فيه الشظية، فطفّاها بالمَيّ.
في الاستقبال كان المستشفى مكتظّ بالمرضى وبالجرحى وبالشهدا! إحنا مستشفانا صغير ثلاث طوابق، ما بِستوعِب أكثر من 10 شهدا، بالكثير 30.
نزلنا تحت، أنا كنت متصاوبة إصابة بليغة، لدرجة إنّه كل الإذاعات حكت إنه تمّ بتر اليد، هو اليد أصلاً كانت موضوعة على البتر، لإنه بردت وعرقت، تحت بالاستقبال القصف ظله شغّال من المدفعيات، فأجا نداء من الوزارة إنه إخلوا المستشفى، وابعثوا شويّة على مستشفى الشفاء، وشويّة على مستشفى ناصر، فكنت من ضمن اللي راحوا على مستشفى ناصر، طبعاً ما قدروا يعملوا لي سوى إنهم يلِفّوا إيدي، لإنه بالأقصى ما فيه إمكانيات.
وصلت وانعمل لي الاسعافات، ودخّلوني على العمليات، واستدعوا دكتور أخصائي للأوعية الدموية، أنا هاي معجزة من فضل الله، والمعجزات عنا في غزة كثير كبيرة، اللي بشتغلوه أطباءنا فِشّ ولا منطقة في العالم بتِشتِغلُه.
عمليتي قعدت 6 ساعات ونص، ولو ما صار هذا الإسعاف لكان إيدي هلأ مبتورة، وثاني يوم الصبح اضطرّوا يرجّعوني على الأقصى، رجعت رغم القصف، وثاني ثالث يوم مستشفى شهداء الأقصى تمّ قصفها، والتمريض والأطباء كانوا على رأس عملهم، في ثلاث أيام اللي أنا كنت موجودة فيها، وحتى كنت موجودة في قسم القلب، عشان الجروح كنت أتابع، لإنه أنا sister مش عارف أقعد، يوم يوم كان يجينا شهدا، ويوم يوم كان القصف يتمّ على المباني المجاورة للأقصى، والأقصى انقصف أربع مرات في 18 يوم، اللي أنا كنت فيهم في وحدة القلب، في المستشفى تمّ استكمال علاجي، انعمل لي 7 عمليات تنظيف، والأطباء حكوا إنه لازم يتِمّ تنسيق، وإنّه تطلعي، لإنّه عمليتك حرجة، الإسرائيليين لمّا بيرموا القذائف ما عندهم أدنى شك إنّه يا موت يا بتر، ما بِدهم إصابة خفيفة، معظم شبابنا إعاقات. ربنا سهّل الأمور، بعد 18 يوم انعمل التنسيق، وتمّ نقلي إلى مستشفى المدينة الطبية، في عمان، وتلقّينا العلاج.
نقطة الضعف عنّا في قطاع غزة الأدوية، مش متوفرة دايماً، لإنّه بتجينا نظام تبرعات من برّه، غرف العناية ما بتستوعب، كمان فيه نقص كتير بالضمادات، وبالأدوية الحيوية المفيدة.
كانوا التمريض صاحباتي يسلّموا عليّ وهمّ يِبكوا؛ لمّا بِلاقوني وضعي منيح يِحكوا لي: إحنا جايين نستمد منك القوة، كنت صامدة، وكانوا ولادي يقولوا: يا ماما شو صار فيكِ؟! أحكي لهم: هذا فضل رب العالمين، والحمد الله امَّشّيين ولادنا على هذا الطريق، ومعنوياتنا عالية.
كان موجود على رأس العمل متطوّعين كُثر في مستشفى شهداء الأقصى، أنا سألت شاب من دير البلح: شو اللي بِجبِرك تيجي؟ إنت حكيت إنه القصف كان فوق راسك وإنتَ راكب التاكسي، قال: هذا عمل قومي، وعمل إنساني، أنا هدول أهلي وبلدي وناسي، فأنا ما بوفِّر أي جهد إني آجي أشتغل وأنقذ وأساعد".
العالم بين رمضاء بايدن ونار ترمب
03 يوليو 2024