كلما ظنت إسرائيلُ أنها أوشكت على إحكام احتلالها للأرض والإنسان في فلسطين، ظهر ما يُخيب هذا الظن ويُثبت أن إخضاع الفلسطينيين بالقوة لا يمكن أن ينجح، وأن هزيمة الشعب -أي شعب – بالقوة العسكرية لا يمكن أن يتم، وأنَّ الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو تسوية عادلة تقوم على أساس إعادة حقوق الفلسطينيين المنهوبة.
ثمة ظاهرة متزايدة في الأراضي الفلسطينية، وهي ظاهرة «العمليات الفردية» التي ينفذها أشخاص مستقلون عن أي فصيل أو حزب، وهذا النوع من العمليات تكرر في الضفة الغربية والقدس المحتلة عدة مرات في السنوات الأخيرة، ويتخذ أشكالاً مختلفة، ولا شك في أنه أصبح مصدر قلق للإسرائيليين، بسبب أن مواجهة مثل هذه العمليات ومثل هذه الظاهرة لا يبدو أمراً سهلاً.
إسرائيل تدرك اليوم أنها تواجه لوناً جديداً من المقاومة والعمليات، وأن هذا اللون يتولاه جيل جديد ولا تجدي معه الوسائل التقليدية السابقة من أجل إحباطه
العمليات الفردية شكلت ظاهرة جديدة طغت على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، لكن أهم ما في هذه الظاهرة أنها تحمل رسالة بالغة، تفيد بأن الفلسطينيين ليسوا رهائن للفصائل والأحزاب، وأن هؤلاء الأخيرين لا يحتكرون المقاومة، وإنما هم أحد وسائلها فقط، وعندما تغيب هذه الفصائل والتنظيمات فهذا يعني أننا أمام ظاهرة فلسطينية جديدة وليس معناه أن المقاومة قد انتهت وتبخرت، وهذا بالضبط ما حدث في الضفة الغربية. في عام 2002 شنت إسرائيل عملية «السور الواقي» التي أحرقت الضفة الغربية بالكامل ومسحت مخيم جنين عن بكرة أبيه، ومن ثم بنت إسرائيل جدار الفصل العنصري الذي ظنت بأنه سيكون الستار الحديدي لحمايتها، وبينما كانت تبني الجدار بشكل متواصل، شنت أعنف وأكبر موجة اغتيالات في تاريخ الشعب الفلسطيني خلال عام 2004. خلال تلك الفترة كان يتم توريط حركة فتح أكثر فأكثر بالسلطة التي تحولت الى ملهاة بالغة البؤس، أما حركة حماس فتم حصارها في غزة، ولم يكد العِقدُ الأول من القرن الجديد ينتهي حتى ظن الإسرائيليون أنهم أحكموا احتلالهم ووصلوا الى حالة الاستقرار. لا شك في أن إسرائيل نجحت في إضعاف الفصائل الفلسطينية، لكن ظاهرة «العمليات الفردية» التي هيمنت على السنوات الأخيرة شكلت عنواناً لمرحلة جديدة، وهي مرحلة ما بعد الفصائلية والحزبية، وقد تجلى ذلك في حكاية إبراهيم النابلسي الذي قتله الإسرائيليون مؤخراً في اشتباك كبير، وسرعان ما تبين بأن الشاب البالغ من العمر 19 عاماً فقط ينتمي الى حركة فتح، وحصل على سلاحه من الجهاد الإسلامي، وكان يحمل أفكار حركة حماس ويوصي بها خيراً. ما يعني في نهاية المطاف أنه لم يكن معنياً بهذه الهويات الفصائلية من حيث المبدأ. ظاهرة «العمليات الفردية» تشكل مصدراً للقلق الحقيقي للإسرائيليين لأنها شكلٌ جديد من المواجهة، ولا يبدو أن التصدي لها أمر سهل، وهذا ما عبَّر عنه الكاتب في جريدة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية يوسي يهوشع الذي كتب مقالاً قبل شهور قال فيه: «يجب الاعتراف بأن مثل هذه الموجة من الإرهاب ليس لها حل سحري»، وأضاف: «لا يوجد عنوان يمكن مهاجمته بقوة، مثل غزة أو مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، من الصعب جداً جني الثمن؛ لا توجد عوامل ضغط على العدو، لأنه من الصعب تحديده». وكتب محلل آخر في جريدة «هارتس» هو عاموس هرئيل يقول إن العمليات التي كانت تستهدف إسرائيل خلال انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000 «كانت تتميز بأن من تقوم بها هي مجموعات منظمة، وقد انتشر الجيش الإسرائيلي في الضفة واغتال العشرات من الناشطين من أجل التصدي لها، أما الآن فإن الوضع مختلف بالنسبة لأجهزة الأمن الإسرائيلية لأن المنظمات أصغر وأكثر محلية».
والخلاصة هو أن إسرائيل التي كانت تعتقد مع بداية العقد الماضي، أنها تمكنت من إخضاع الفلسطينيين وإنهاء مقاومتهم ونزع أي قوة عن الفصائل، أصبحت تدرك اليوم بأنها تواجه لوناً جديداً من المقاومة والعمليات، وأن هذا اللون يتولاه جيل جديد ولا تجدي معه الوسائل التقليدية السابقة من أجل إحباطه. أما الفلسطينيون في الضفة الغربية والذين يرون التراجع غير المسبوق في نشاط ووجود وتأثير الفصائل فانهم على الأرجح قد تجاوزوهم ولم يعودوا بانتظارهم.
كاتب فلسطيني