سئمنا من سوق الأدلة البديهية على ان الحروب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هي حروب انتخابية، فهي وان كانت هكذا في بعض جوانبها وتوقيتها الا ان ذلك ليس كل شيء ولا هو بالبعد الأساسي في حروب إسرائيل على الفلسطينيين في الضفة وغزة.
في رمضان أيار الماضي تبلور مثلث محارب رأسه في القدس وقاعدته تمتد من جنين شمالا الى رفح جنوبا، وداخل هذا المثلث وقعت عمليات نوعية وراء الخط الأخضر في النقب والقلب، أي في الأماكن التي تعتبر الأكثر بعداً عن عمليات قتالية كالتي حدثت.
حرب الأيام الثلاثة التي بادرت بها إسرائيل باطلاق شرارتها الأولى من جنين، وبعدها بفترة وجيزة اشعلت نارها الاوسع والاشرس في غزة، جاءت امتدادا متصلا لحرب أيار رمضان من العام الفائت، فمنذ وضعت تلك الحرب الواسعة اوزارها وحكومة إسرائيل تسابق الزمن في معالجة موجة التعاطف الشعبي الذي اظهره الفلسطينيون الذين يحملون جنسيتها، والذي بلغ حد الجنوح الى العنف بحيث فتحت الأبواب واسعة امام التسلح الشعبي اليهودي، حيث بلغ الاقبال على شراء السلاح الفردي اضعافا مضاعفة لما كان عليه في الظروف العادية.
ومنذ تلك الحرب والى يومنا هذا لم تتوقف إسرائيل عن اجتياحاتها للمناطق الفلسطينية التي سجلت اعلى نسبة في الاعتقال والقتل.
اهداف إسرائيل من هذه الحرب المتصلة معلنة ودون أي قدر من التحفظ، أولها تحصين جبهتها الداخلية بوضع الإسرائيليين جميعا تحت السلاح والخوف من الاخر، واشهار معادلة العصا والجزرة وتنفيذها على الطريقة الإسرائيلية لتهدئة غزة، وفك ارتباطها القتالي مع الضفة والقدس، واعتقال وقتل اكبر عدد ممكن من حملة السلاح وغيرهم في مناطق السيطرة الافتراضية للسلطة.
وفي سياق هذا الجهد المحموم الذي لم يهدأ ولم يتوقف يوما واحدا جرت وللمرة الثانية عملية عزل للساحات عن بعضها البعض، فلم تعد حماس بقادرة على تنفيذ وعدها بمقاتلة إسرائيل اذا ما واصلت سياستها الاحتلالية العدوانية ضد القدس والضفة، كما لم تعد شريكا قتاليا للجهاد التي خسرت عددا مهما من قادتها الميدانيين في ثاني استفراد إسرائيلي بها ، اما تعاطف الثماني وأربعين، فظل يعتمل داخل النفوس دون جهد يذكر بالقياس لجهد رمضان أيار الماضي، فالقوم منشغلون بالانتخابات الوشيكة ذات الأهمية القصوى لمعظمهم ان لم نقل جميعهم ممن سيصوتون او سيقاطعون.
في الموسم الانتخابي الذي ارتفعت حرارته هذه الأيام مع ان كل سنوات إسرائيل مواسم انتخابية يظل العنصر الفلسطيني هو الناخب الحاسم في اللعبة، لبيد الذي تطارده تهمة قلة الخبرة في الشؤون القتالية والأمنية، لا يجد ما ينفي هذه التهمة عنه غير افتعال حرب مع الفلسطينيين بكل الأسلحة على غزة، ومواصلة حرب الاجتياحات والإعدامات في الضفة، متحالفا في الميدان مع جانتس ومتنافسا معه في السباق نحو الموقع السحري وهو رئاسة الحكومة القادمة، وهذا النهج ليس حكرا على لبيد الذي يعتبره منافسوه متدربا ولا على جانتس الذي يطارده اكثر من فشل أهمه حين ضحك عليه نتنياهو، بل هو حاجة لكل طامح ولو بصوت واحد يكسر التعادل الذي حكم الدولة العبرية ثلاث سنوات وستجري فيها انتخابات للمرة الخامسة.
الملفت للنظر هو هذا الجمود الذي يلف الساحة الفلسطينية اذ لا حركة بأي اتجاه سوى مواصلة السجالات والاتهامات والادانات مع تفرغ الطبقة السياسية لمهمة عد العصي الهابطة على رؤوس الفلسطينيين والشكوى الى المجتمع الدولي، وبقدر ما تبدو التحديات اليومية وكلها قاسية ودموية كحافز قوي لكسر الجمود الفلسطيني، نراه يزداد ويتضاعف، تغطيه ادبيات بائسة عنوانها ... "من هو الذي على حق" فتح ام حماس.. حماس ام الجهاد.. الشعبية ام المنظمة...
انها دوامة يوجد من داخلنا ومن حولنا من لا يرغب بخروجنا منها، اما العالم الذي انشغل عنا بالقضايا الأكثر الحاحا التي انتجتها الحرب الأوكرانية الروسية بحيث تخشى الشعوب المنعمة الثرية والقادرة من برد الشتاء، فليس لديه ما يقدم لنا سوى تعاطف بارد محايد مع حق انساني مصادر، فهذا العالم ان لم يكن قادرا او راغبا في دعمنا فقد منحناه العذر لتجاهلنا، اما إسرائيل المعتدية دائما علينا فسكينها الحاد ما يزال يواصل العمل في جسدنا دون ان تخشى في ذلك لومة لائم.
نكرر السؤال الذي نختتم به كل اقوالنا، هل سيلتفت الفلسطينيون الى حالهم والى واقع قضيتهم فيتدبرون على الأقل شؤون صمودهم ... الله اعلم.