أُشبع موضوع المؤتمر الصحافي، الذي عقده الرئيس أبو مازن مع المستشار الألماني أولاف شولتس في ألمانيا، خلال زيارة الرئيس لها، نقاشاً وتحليلاً، خاصة في ظل الهجمة الإسرائيلية على الرئيس أبو مازن ووصفه بالمُنكِر للمحرقة، وتذكير الإسرائيليين والعالم بالكتب التي ألّفها أبو مازن، والتي تناول فيها موضوع المحرقة والتعاون بين الصهيونية والنازية. وكان هناك إجماع فلسطيني نادر حول الرئيس، ودعمٌ له في وجه الانتقادات الإسرائيلية وحتى الألمانية.
لم يقصد الرئيس أبو مازن أن يشبّه المحرقة بأي جريمة أخرى، وقد يكون ذِكرها وقع بالخطأ، ولكنه تحدث عن مجازر ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني واعترف إسرائيليون بها، والأهم أن الجريمة الكبرى التي تصنف جريمة حرب هي ما تقوم به إسرائيل كقوة احتلال وحيدة على وجه الكرة الأرضية منذ القرن الماضي. واستغلال إسرائيل لمجرد ذكر المحرقة في الواقع هو للتغطية على جريمة الاحتلال. وتحاول إسرائيل الرسمية أن تحصل على وضع فريد في الكون وهذا حاصل عملياً، الادعاء الحصري بدور الضحية، وتبرير الجرائم ضد الشعب الفلسطيني انطلاقاً من هذا الوضع الفريد. مع العلم أن الشعب الفلسطيني ليس هو من قام باضطهاد اليهود وتنفيذ محرقة ضدهم. كما أن المحرقة ضد اليهود كان ضحيتها أيضاً فئات وشعوب ومقاتلون ضد النازية، وطالت ملايين البشر.
معاناة اليهود على يد الأوروبيين في القرون الحديثة، خاصة في القرن العشرين، لا يمكنها أن تشكل غطاء لارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، بل الأَوْلى أن يُظهر اليهود حساسية مفرطة تجاه أي ظلم يلحق بأي مجموعة بشرية، فما بالنا عندما نتحدث عن شعب كامل هُجّر وشُرّد ونُكّل به، ولا يزال يخضع للاحتلال وجرائمه البشعة التي تصنف أنها جرائم حرب بكل معنى الكلمة. وتقوم إسرائيل اليوم بدور الجلاد ولا يصلح أبداً معها أن تلعب من جديد دور الضحية. فالتذكير بالمحرقة - التي هي دون أدنى شك جريمة بشعة لا مثيل لها في العصر الحديث - لا يمكنه أن يغطي على جرائم الاحتلال والمستوطنين. والأصح أن تقف إسرائيل أمام المرآة وتنظر إلى نفسها، وتقارن ما تقوم به مع جرائم غيرها سواء ضد اليهود أو غيرهم.
الهجوم المبالغ فيه ضد الرئيس عباس هو نوع من الدفاع عن النفس في مواجهة اتهامات المنظمات الدولية، وحتى منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية، لإسرائيل بأنها تمارس سياسة التمييز العنصري «الأبارتهايد» تجاه الفلسطينيين، وتخرق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان بشكل منهجي وثابت ودائم. وهو تعبير عن هروب من استحقاق البحث عن سلام عادل وشامل.
اليوم، إسرائيل تستعد لانتخابات ستعقد في الأول من شهر تشرين الثاني القادم، أي بعد حوالى 70 يوماً، والموضوع السياسي والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ليسا مدرجين على أجندة الأحزاب إلا من جانب التأكيد على أمن إسرائيل ومصالحها، وفقاً لنظرة اليمين الإسرائيلي الذي بات يسيطر ويهيمن على الخطاب السياسي الإسرائيلي بصورة عامة. فالسلام من وجهة نظر إسرائيل اليوم - أي غالبية الأحزاب التي تشكل أغلبية في البرلمان الحالي وحتى القادم - هو الحفاظ على إسرائيل قوية وآمنة والتخلص من الفلسطينيين، ولكن دون منحهم أي حقوق. بل التركيز هو على بقاء الانقسام الفلسطيني: غزة لوحدها، والضفة تحت حكم إسرائيل الكامل، وتقاسم وظيفي مع السلطة الفلسطينية دون أي أفق لقيام دولة فلسطينية مستقلة أو انسحاب إسرائيلي حقيقي من كامل مناطق الضفة الغربية، خاصة المصنفة (ج) والتي تعتبرها إسرائيل جزءاً منها، وتتصرف بها على هذا النحو. وليس وارداً أن يحدث تغيير جوهري في الموقف الإسرائيلي في المدى المنظور؛ نظراً لانزياح المجتمع الإسرائيلي بشكل بارز نحو اليمين واليمين المتطرف.
لقد استغلت إسرائيل عبارة الرئيس أبو مازن لتقوّي سيطرتها على الساحة الألمانية - التي هي أيضاً تخضع لتأثيرات الدعاية الصهيونية بشكل كبير - مستغلة شعور الألمان بالذنب جراء جريمتهم ضد الإنسانية في عهد النازية، وجدّدت حراكها على الساحة الألمانية لمنع أي تغيير في السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية، خاصة أن هناك بوادر للعب دور ألماني أكبر في منطقة الشرق الأوسط بالتعاون مع فرنسا. وهذه تشكل فرصة جيدة لإسرائيل لمحاولة تقويض أي دور أوروبي بقيادة ألمانية - فرنسية تجاه العملية السياسية. بل لقد تحولت عبارة الرئيس إلى مادة للمناكفات السياسية داخل ألمانيا، واستغلتها المعارضة لمهاجمة وانتقاد المستشار شولتس. وهذه التطورات تلقي بعبء كبير على الممثلية الفلسطينية في برلين والجالية الفلسطينية والجاليات العربية في ألمانيا، للعمل من أجل وضع حدّ للدعاية الصهيونية، وإظهار حقيقة ما يجري في فلسطين على يد المحتل المجرم.