ماكرون في الجزائر.. الأسباب والدوافع

WSv8G.jpeg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

ثلاثة أيام هي مدة الزيارة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر برفقة 90 شخصية، من بينهم 7 وزراء ورجال أعمال ومثقفون ورياضيون، وسط انتقاد شعبي جزائري لهذه الزيارة التي تأتي بعد توتر العلاقات بين البلدين بسبب تصريحات سابقة لماكرون.
الزيارة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي بدعوة من نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، هي زيارة الضرورة وثمة مؤشرات على أهميتها بالنظر إلى المدة الزمنية التي قضاها ماكرون في الجزائر، فضلاً عن عديد الشخصيات الوزارية والاعتبارية التي شاركته هذه الإقامة.
العلاقات بين البلدين شهدت بعد سنوات استقلال الجزائر عن فرنسا صعوداً وهبوطاً، وفي عصر ماكرون كان يمكن للعلاقات أن تتحسن لولا تصريحات أدلى بها في أيلول 2021، انتقد خلالها نظام الحكم في الجزائر وشكك بوجود أمة هناك قبل مرحلة الاستعمار الفرنسي.
وسبق ذلك موقف فرنسي ظل يرفض طوال السنوات الماضية مطلب الجزائر بشأن اعتذار باريس عن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي خلال فترة احتلاله، وتبع ذلك في عصر ماكرون توترات هامشية من قبيل ملف الهجرة غير الشرعية وتخفيض التأشيرات الفرنسية للجزائريين إلى النصف.
الشعب الجزائري الذي فقد مليونا ونصف المليون شهيد بسبب الاستعمار الفرنسي، حسّاس جداً إزاء أي تصريحات تزدري وطنيته ونضاله ضد الاستعمار، وتصريحات ماكرون عصفت بالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلى درجة منعت فيها الجزائر عبور الطائرات العسكرية الفرنسية أجواءها.
هذا التصريح الناري كان كفيلاً بحدوث استدارة جزائرية بنسبة 180 درجة عن فرنسا والتوجه إلى الثلاثي الأوروبي ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا لتعزيز الشراكات الاقتصادية ومدهم بالغاز الطبيعي، وكذلك الخروج عن النطاق الأوروبي بتوسيع الشراكات مع دول مثل الصين وروسيا.
في تصريحات سابقة وخلال لقائه الدوري مع الصحافة الوطنية الجزائرية قبل أكثر من شهر بقليل، أبدى الرئيس تبون رغبة في الانضمام إلى مجموعة «بريكس» الاقتصادية التي تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا.
هذه التصريحات مرتبطة برغبة جزائرية في الاستفادة من الشراكات الدولية وعدم الاصطفاف الدولي لجهة على حساب أخرى، وكذلك رسالة إلى فرنسا بأن الجزائر تمتلك رفاهية الخيار لتحديد أي المسارات السياسية والاقتصادية التي تناسبه بعيداً عن الشراكة مع باريس.
أن تعطي الجزائر ظهرها لفرنسا فإن هذا يشكل أمراً مقلقاً للأخيرة لاعتبارات كثيرة، أولها أنها بحاجة للغاز الجزائري والشتاء قريب على الأبواب، والحرب الروسية - الأوكرانية لم تتوقف حتى اللحظة، وهناك ضغط أميركي على الدول الأوروبية بأن تنوع مصادر الحصول على الغاز وتقلص الاستيراد من موسكو.
لا تزال هناك شراكة اقتصادية قوية بين البلدين، لكن الجزائر دأبت في الأشهر الماضية على استبعاد مشروعات فرنسية حيوية من السوق الجزائرية، ما جعل الصين أبرز وأهم الشركاء الاقتصاديين مع هذا البلد العربي، إلى جانب تنامي حجم الاستثمارات التركية في الجزائر والتي تزيد على 5 مليارات دولار.
وثانياً، باريس لا تريد الجزائر من أجل غازها فقط، وإنما تريد توسيع شبكة استثماراتها هناك بما يعيدها إلى مسار الشراكة الاستراتيجية، بالإضافة ثالثاً، إلى استفادة فرنسا من الجزائر في علاقة الأخيرة مع مالي التي خرجت منها القوات الفرنسية بعد تسعة أعوام من الوجود العسكري هناك.
خروج فرنسا من مالي وتوتر العلاقات بينها وبين الجزائر، يضعفان التأثير الفرنسي على دول الساحل الأفريقي، وتنظر باريس إلى الجزائر باهتمام بالغ لطبيعة علاقة الأخيرة مع جيرانها الأفارقة وحدودها الجغرافية الطويلة معها كما هو الحال مع ليبيا ومالي والنيجر.
تحت هذه القناعة تجد باريس أن تحسين علاقتها مع الجزائر سيجعلها أكثر تأثيراً على القارة الأفريقية، وتدرك أن القطيعة ستجعل دولة ما تملأ هذا الفراغ السياسي والاقتصادي، والدليل أن الجزائر تنوع شراكاتها الدولية ومالي تفتح الباب أمام الوجود الروسي.
لهذه الأسباب يهتم ماكرون بزيارة الجزائر وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، لكن الأخيرة في موقع الطرف القوي وعلى الأغلب أن تستثمر هذه الزيارة للمطالبة بتحقيق بعض الشروط لعودة العلاقات إلى سابق عهدها.
الجزائر لن تغلق الباب على ماكرون ولن تقطع حبل الود، كونها مستفيدة من توسيع حجم الشراكة بما يخدم اقتصادها ويضمن تدفق الاستثمارات الفرنسية إليها، إنما لن يكون ذلك على حساب موقفها الثابت من ضرورة أن تبدي باريس مرونة بشأن تسليم رفات الشهداء الجزائريين وتعويض ضحايا تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية والاعتراف بأخطائها الاستعمارية.
في النتيجة، سيلتف ماكرون على مسألة الاعتذار الرسمي عن جرائم المرحلة الاستعمارية لمنع غضب الأحزاب اليمينية الفرنسية منه، وسيعوّض عن ذلك بتصريحات ناعمة عن العلاقات المشتركة بين البلدين واحترام وحدة وسيادة الجزائر والاعتراف بالتعذيب والقتل أيام الحقبة الاستعمارية وطي هذه الصفحة والنظر إلى المستقبل.