هارتس : علاقة إسرائيل بغزة: من الحبّ الأعمى إلى السياسة العمياء!

شاؤول-ارئيلي.jpg
حجم الخط

بقلم: شاؤول أرئيلي



مرّت علاقة المجتمع الإسرائيلي – اليهودي بمستقبل قطاع غزة السياسي وسكانه بانقلابين تاريخيين منذ "حرب الاستقلال". الأول، عند التوقيع على اتفاق أوسلو في العام 1993، حيث كان هناك تنازل عن التوق إلى تحويل القطاع إلى جزء من دولة إسرائيل بسبب الاستيقاظ من الحب الأعمى للقطاع، الذي أدى حتى ذلك الحين إلى تجاهل الواقع السياسي، الأمني، والديمغرافي. في المقابل، تمثل الانقلاب الثاني بتبني الرؤية التي تعتبر غزة كيانا سياسيا منفصلا ومستقلا تحت سيطرة "حماس"، لا يرتبط مستقبله بمستقبل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية، ما يدل على تجاهل تاريخ النزاع والعمى السياسي فيما يتعلق بالتداعيات السياسية الحالية.
في إطار لجنة المصالحة في لوزان وافقت إسرائيل على "خطة غزة" من آذار 1949، التي ستضم إسرائيل إلى أساسها قطاع غزة، وسيسمح للمئة ألف فلسطيني الذين يعيشون فيه لهم بالعودة إلى بيوتهم داخل إسرائيل. في المقابل، ستقوم إسرائيل بتعويض مصر والأردن بمساحة بالحجم الذي سيحدد، كما يبدو في جنوب النقب. أورد دافيد بن غوريون بالتفصيل في مذكراته اعتباراته للموافقة على الشروط المذكورة أعلاه: 1- الأرض هي أرض جيدة ويمكن أن تقام عليها قرى للصيادين. 2- شاطئ غزة مهم بدرجة كبيرة، وسنمنع وجود جيرة مصرية في المكان. 3- توجد للمكان قيمة اقتصادية وأمنية، حيث سنمنع دخول عبد الله (ملك الأردن) إلى قطاع غزة... إذا سيطر عبد الله على غزة فسيتعين عليه أن يطالب بممر من القطاع إلى الأردن. تم رفض العرض هذا من قبل مصر وتم حفظه.
أشعلت حرب "الأيام الستة" من جديد الحب للقطاع الذي ثلثا سكانه من اللاجئين. نصت خطة ألون في العام 1967 على أن إسرائيل ستضم القطاع على الفور، وأن اللاجئين الموجودين فيه سيتم توطينهم خارج حدود القطاع. ومن تجرأ على طرح شكوك بخصوص المنطق في هذه الخطة قام الوزير غليلي بإيقافه عند حده عندما قال: "قطاع غزة سيكون جزءا من دولة إسرائيل. وحسب معرفتي قيل هذا الأمر لجهات دولية وجهات سياسية جدية، ليس فقط في مناسبات علنية، بل أيضا في مفاوضات دبلوماسية. ولا اعرف أي أحد يخالف هذا الرأي، وبالتأكيد ليس حزب العمال الموحد الذي ضمن هذا في خطة السلام خاصته على الفور بعد انتهاء حرب الأيام الستة (خطابات الكنيست، 27/3/1972).
في العام 1977، لم يؤد استبدال السلطة إلى تغيير السياسة في موضوع غزة. وفي 28 كانون الأول 1977، عرض رئيس الحكومة في حينه، مناحيم بيغن، خطة الحكم الذاتي التي تبناها، والتي أساسها: "في (يهودا والسامرة) وفي القطاع يقام حكم ذاتي إداري للسكان العرب في هذه المناطق من قبل سكانها ومن أجلهم". بعد سنة من ذلك، في احد اتفاقات الإطار الذي وقع بين إسرائيل ومصر في كامب ديفيد في 1978، صمم بيغن على أن القطاع سيبقى تحت سيطرة إسرائيل في إطار الحكم الذاتي (الذي لم يخرج إلى حيز التنفيذ حتى اتفاقات أوسلو). وبعد ذلك قال، إنه كان ينوي ضمه بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
حدث الانقلاب الأول. وشطبت إسرائيل في اتفاق أوسلو، الذي وقع في 1993، للمرة الأولى غزة من مجمل طلباتها الجغرافية التي ستتم تسويتها في إطار الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين. في أيار 1994، نقلت إسرائيل إلى مسؤولية السلطة الفلسطينية 80 في المئة من أراضي القطاع. أكمل أريئيل شارون المهمة والصحوة عندما كان رئيسا للحكومة، وأعلن في 2003 عن خطة الانفصال. وفي 26/5/2003 قدم في جلسة قائمة "الليكود" تفسيرا لموقفه وقال، "الاحتفاظ بـ 3.5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال أمر سيئ حتى بالنسبة لإسرائيل، وأيضا للفلسطينيين وأيضا لاقتصاد إسرائيل. الآن، هناك مليون فلسطيني تقوم منظمات دولية بتمويلهم. أنتم تريدون أن تأخذوا ذلك على مسؤوليتكم... لا اعتقد أن هذا الأمر صحيح". وقال شارون أيضا في موضوع الانفصال، "كنت آمل أن نستطيع الاحتفاظ به إلى الأبد... لكن الواقع المتغير في البلاد وفي العالم أجبرني على القيام بتقدير آخر وتغيير موقفي. في صيف 2015، انتشر الجيش الإسرائيلي خارج القطاع وتم إخلاء 8 آلاف مستوطن من المستوطنات الموجودة في القطاع.
فوز "حماس" في العام 2006 في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وسيطرتها العسكرية على غزة في العام 2007 كانت هي المحرك للانقلاب الثاني الذي حدث في رؤية إسرائيل بخصوص مستقبل قطاع غزة. سارع أيهود أولمرت إلى فرض الحصار على القطاع عندما كان رئيسا للحكومة، وتبنى سياسة استهدفت تثبيت الوضع. تبنى بنيامين نتنياهو عند انتخابه رئيسا للحكومة في 2009 السياسة التي استهدفت التثبيت في وعي الجمهور أن القطاع هو كيان منفصل ومستقبله السياسي منفصل عن المستقبل السياسي للضفة الغربية، وكل حدوده، في البحر والجو والبر، يتم التحكم بها من قبل إسرائيل. أوضح نتنياهو ذلك جيدا في جلسة قائمة "الليكود" في آذار 2019، "من يريد إفشال إقامة الدولة الفلسطينية يجب عليه تأييد تقوية (حماس) ونقل الأموال إليها. هذا جزء من استراتيجيتها، التفريق بين الفلسطينيين في قطاع غزة وبين الفلسطينيين في (يهودا والسامرة)".
في الخطاب، الذي ألقاه في الأمم المتحدة في 2018، أعلن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، "لن تقوم دولة في قطاع غزة ولن تقوم دولة دون قطاع غزة. أيضا لن تقوم دولة فلسطينية في حدود مؤقتة". مؤخرا، وصف رؤية إسرائيل هذه "الجهاد الإسلامي"، الذي نشر أثناء عملية "بزوغ الفجر" في موقعه بياناً جاء فيه، "يحاول الاحتلال الإسرائيلي فصل الضفة عن القطاع، وفصل القدس عنهما... لا يرى الاحتلال الإسرائيلي نصب عينيه الكل الفلسطيني. ويجب أن ينبع الرد والسلوك من قناعة داخلية عميقة بأن هذا الكل قائم".
هذه الرؤية الفلسطينية، رؤية "الكل الفلسطيني الكامل"، تجيب عن ادعاء إسرائيل الذي يقول لو أن منظمة "حماس" كانت تريد ذلك لكانت ألقت سلاحها، وحولت القطاع إلى سنغافورة. يتعلق نضال "حماس" بموضوع النزاع كله: فلسطين الانتدابية. لم يكن الهدف في أي يوم إقامة إمارة في القطاع، الذي مساحته 1.2 في المئة فقط من مساحة فلسطين. أظهرت "حماس" في الواقع عدة مرات الاستعداد للتفاوض، لكنها أضافت إلى ذلك طلبا يتعلق بموضوع اللاجئين والمستوطنات، التي لا تتساوق مع المعايير التي أجرت عليها "م.ت.ف" المفاوضات مع إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، إسرائيل معنية بأن يكون القطاع كيانا مستقلا قابلا للحياة. ومن اجل أن يحدث ذلك، مطلوب من إسرائيل أن ترفع الحصار عن القطاع وأن تقيم تنسيقا كاملا ووثيقا في مجال الجو والبحر والبر والاقتصاد والمواصلات والبيئة وما شابه. ولكن إسرائيل تمتنع عن رفع الحصار، وهي لا تسمح بإقامة ميناء أو مطار ومعابر دولية. لأنها تدرك أهداف "حماس"، وتخشى من أن الفلسطينيين في الضفة الغربية سيتبنون رؤيتها العنيفة، وتخشى من أن "حماس" ستزداد قوة، وستسيطر على تمثيل الشعب الفلسطيني.
الرؤية الجديدة، التي تجذرت في أوساط الجمهور في إسرائيل، التي تقول، إنه سيكون بالإمكان ضم الضفة الغربية فقط من اجل الحفاظ على أكثرية يهودية هي 60 في المئة، وضرب غزة كلما استوجب الأمر، تعكس العمى السياسي وفهما معطوبا بالنسبة للعمليات المتوقعة في كل سيناريو معقول.
من جهة، ستبذل إسرائيل كل جهدها من اجل تجنب ضم الضفة الغربية مع الـ 2.8 مليون فلسطيني من سكانها. من جهة أخرى، أعلن جميع رؤساء الأحزاب، من اليمين وحتى "يوجد مستقبل"، بأنهم يؤيدون الضم الجزئي في الضفة الغربية (على سبيل المثال غور الأردن). وهم ينوون ضم أحادي الجانب للمستوطنات التي يواصلون توسيعها والبؤر غير القانونية التي يقومون "بتبييضها" بشكل حثيث.
نُشر بحث معمق ومتعدد المجالات حول أفكار الضم في العام 2018، أجرته حركة "قادة من اجل أمن إسرائيل"، أظهر بأن الأمر يتعلق بعملية متدحرجة على شكل أحجار الدومينو التي في نهايتها ستضطر إسرائيل إلى ضم كل الضفة الغربية، وستتحمل المسؤولية عن جميع السكان. حتى لو طبقت إسرائيل في حينه بالنسبة للضفة نموذج شرقي القدس، الذي يميز بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وحتى لو لم يظهر الفلسطينيون أي مقاومة لهذه العملية، فإن البحث أظهر بأن إسرائيل ستتضرر اقتصاديا بسبب الحاجة إلى استثمار 52 مليار شيكل في السنة في السكان الذين سيتم ضمهم. هذا ليس التحدي الرئيسي الذي يتعين على إسرائيل مواجهته في حالة الضم.
يمكن الافتراض بأنه بعد الضم فإن الفلسطينيين في الضفة بقيادة الشباب سيديرون نضالا من اجل المساواة الكاملة في الحقوق، بما في ذلك إعطاء الجنسية الإسرائيلية (أيضا لسكان شرقي القدس). لا أحد يعرف كم سيستغرق هذا الصراع وبأي قوة سيجري، والى أي درجة سيشبه الحرب الأهلية التي ستتعب وتضعف إسرائيل، لكن في نهاية المطاف سيحدث هذا، وسيحصل الفلسطينيون على المواطنة الإسرائيلية. من هناك ستكون المسافة قصيرة لتحقيق أكثرية عربية، حتى بسبب الهجرة المتوقعة لإسرائيليين كثيرين لن يسلموا بالواقع الجديد، وتشكيل حكومة مع أغلبية عربية وإلغاء قانون العودة وقانون القومية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإعادة توحيد كل فلسطين عن طريق ضم قطاع غزة.
هذا السيناريو هو السيناريو المرجح إذا تمسكت إسرائيل بالسياسة القائمة، وبقيت الظروف في المنطقة وفي العالم على حالها. على الجمهور الإسرائيلي الإدراك بأن قطاع غزة كان جزءاً من فلسطين الانتدابية، ويعتبر سكانه انفسهم جزءا من الشعب الفلسطيني، الذي تحددت هويته الوطنية عن طريق حدود فلسطين الانتدابية. كان قطاع غزة وبقي جزءا من النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، لذلك يجب أن يكون أيضا جزءاً لا ينفصل عن حله في أي سيناريو سياسي.

عن "هآرتس"