لامعيارية الموقف.. انكشاف السياسة..!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 


السياسة ليست فعلاً خيرياً ولا عملاً إنسانياً خالصاً، وإلا لما كان أمير مثل فريدناند، ذئب التاريخ الأبرز، واحداً من أعلامها قبل أن يكتب ميكافيلي كتابه عنه. تفصلنا خمسة قرون عن تلك اللحظة التاريخية التي تمكنت بدهاء فائق من توحيد أقاليم أسبانيا، وطرد المسلمين من غرناطة، وإقامة الإمبراطورية الإسبانية، واكتشاف الأميركتين، واحتلال كل أميركا اللاتينية، قبل أن يجيء الأسباني سيمون بوليفار ولمصادفات التاريخ محرراً لتلك القارة.
ما بين دهاء فريدناند وعبقرية الأخلاق لدى بوليفار مساحة هائلة صنعت تاريخاً إسبانياً على مستوى البشرية، كان فريدناند يكذب على كل ملوك أوروبا، وكذب على إيزابيلا الصغيرة وريثة إقليم أراغون ليتزوجها ويستولي على الإقليم، ليضمه إلى إمارته قشتالة، قبل أن ينتقل لغرناطة حيث كان المسلمون يتصارعون على السلطة والنساء، عندما تزوج أبو الحسن على زوجته عائشة لتتحالف مع ابنها أبو عبد الله الأحمر لخلعه، قبل أن يحاصره فريدناند لتقول كلمتها الشهيرة في موكب الخروج الأخير.
وأمام خداع فريدناند، كان بوليفار المحرر قد اقترحوا عليه إقامة تمثال له قال كلمته الشهيرة: «أما الأحياء فلا يقام لهم تماثيل، قد يغدرون أو يخونون في آخر لحظة». وكلما حرر دولة استقبلته بالورود يقيم فيها حكماً وينسحب متواضعاً ليحرر أخرى، لكن والحديث هنا وباعتباره يذهب نحو التجربة الإسبانية المنسية، وسط أفول نجم تلك الدولة التي كانت يوماً أكبر إمبراطورية، كان الجنرال المرعب فرانكوا قد تسلم حكمها وبما فعله بالشعب الأسباني من مذابح، وعندما كان في أيامه الأخيرة يصارع سكرات الموت كان يفقد الوعي طويلاً، ولشدة خوف الشعب الأسباني الذي جاء مهللاً للزعيم حول القصر.
للحظة ما استعاد وعيه ليسمع هتاف الجماهير، ليسأل أطبائه عن ذلك الصوت خارج أصوات القصر فأجابوه: «الشعب جاء ليودعك»، فيسأل مستغرباً: «لماذا هو الشعب مسافر؟». وتلك سيكولوجية الدكتاتور الذي يظن أنه خالد للأبد، فسفر الشعب الأسباني ممكن، ولكن موته غير ممكن، لقد أجريت العديد من الدراسات حول سيكولوجية الرؤساء والقادة وتأثيرها، لكن فرانكوا يصلح نموذجاً لقادة وقوى انفصلت تماماً عن واقع شعوبها.
في لحظة ما بالنسبة للمثقف، لا بد من زيارة للتاريخ إذا كانت تصلح لمقارنات، مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن إسقاط زمن على آخر، كما قال ذلك الفيلسوف: «أنت لا تنزل النهر مرتين»، فكل شيء تغير، والسياسة التي كانت تصلح لزمن وبيئة ومجتمع لا تعود صالحة لنفس المجتمع في زمن آخر، ولا تصلح لمجتمعات أخرى، فما يميز المجتمعات ديناميكية التغيير.
وهنا الاختلاف السياسي مع أيديولوجيات وأصوليات تصر على إسقاط سياسات الماضي على حاضر لا يشبه إطلاقاً، لا بمكوناته وظروفه وإمكانياته، ولا سيكولوجية تلك العصور الغابرة.
بين السياسة والأخلاق مسافة، ولكن لم تتوقف محاولات الكثير عبر التاريخ في إلباس السياسة ثوباً أخلاقياً، أو تبرير الفعل السياسي بالأخلاق، وأكثر من برع في ذلك هم أصحاب الأيديولوجيا؛ لأن وظيفتها الأولى هي التبرير ومنطقة إجابات لكل الأسئلة، باعتبار أن «الأيديولوجيات لديها حلول لكل شيء». هكذا يقول منظروها والمؤيدون رغم بطلان ذلك تاريخياً، وبتجربة الحضارة التي كشفت عوار جمودها أمام مجتمعات متحركة، فكان لا بد من الصدام الذي شاهدناه في ملاعب التاريخ الدامية.
ما يستحضر العمل السياسي والمقارنات ربما في الانكشاف الحاصل لكل السياسيين في المنطقة العربية، ربما لأن السياسة ليست ابنة المنطقة العربية ذات الطابع البدائي الصحراوي، فهي لم تتطور في تلك المنطقة، فلم يتم استدعاؤها بناء على تطور المجتمعات، بل تم استيرادها مع بدايات القرن العشرين واحتلال المنطقة، وجاءت مع المستعمر وبالتالي ظلت غريبة ووحيدة ومشوهة إلى حد ما، وتدعو أحياناً للسخرية وأحياناً للشفقة.
الفلسطينيون ونظراً لفرادة التجربة، فقد أقاموا نظامهم السياسي في المهجر والشتات وخارج الوطن، حيث فقدان الجغرافيا لينشأ غريباً خارج الوطن، وحين عاد للوطن أنشأ حكماً تحت الاحتلال في سابقة غريبة زادت من التشوه، ومع فقدان الإنجاز وفشل التحرير زاد الطين بلة، ومع الصراع على السلطة ووقف العملية الديمقراطية وسيكولوجية التربص، فقدوا توازنهم تماماً، لتصبح ممارستهم للسياسة حالة تتداخل فيها الملهاة بالمأساة، كما قال الشاعر محمود درويش، اختلت المعايير واختلط فيها فقر التجربة مع نهم السلطة وفهلوة التصريحات والأحكام بلا معايير كل شيء أصبح مثيراً للدهشة وللحزن أيضاً.
واحدة من سذاجة خلل المعايير في أحكامهم على الراهن، وكما تقول الحكمة: «يسقط الفرد عندما يعطي حكمين في قضية واحدة». هذا ينطبق على الأفراد والأحزاب والجماعات والدول، خصوصاً عندما يكون هناك من يراقب ويدقق، ويحكم ما حدث الأسبوع الماضي من تقارب بين تركيا وإسرائيل ومفهوم أن للدولتين مصالح قديمة وراسخة، لكن المثير هنا ما حدث قبل عامين، عندما قامت دولة مثل الإمارات بالتطبيع وفارق الحكم فلسطينياً (أنا كتبت في «الأيام» هنا رفضاً للتطبيع الإماراتي)، ولكن حركتَي «حماس» و»فتح» اللتين لم تعلّقا على التقارب التركي كان لهما موقف مغاير مع الإمارات.
الموقف واحد والمعيار واحد إذا كان الأمر يتعلق بالقضية، فأي تقارب مع اسرائيل يفترض أن يأخذ نفس الحكم، وهو الحدث الذي تكرر عندما قامت إسرائيل بالهجوم على غزة وحركة «الجهاد» هذا الشهر، كان لـ»حماس» موقف مختلف عن ردود فعلها في السابق، وهو موقف منطقي ومسؤول أخذ بعين الاعتبار مصالح الناس، كما قالت الحركة.. وهو ما دعا أحد الأصدقاء الماكرين ليعلق بالقول: «ممتاز.. هناك تقدم.. بعد كل هذا العمر حركة حماس تقول ما كنا نقوله لها لسنوات، وكانت تهاجمنا حد التخوين».
تجارب المصالحة وشعاراتها، ومن تابع المحاولات، بات يدرك أن المصالحة تصبح مطلباً وطنياً عندما تكون في صالح هذا الطرف أو ذاك، وأن الحرب والانقسام والقتل في لحظة ما تصبح مصلحة وطنية حين يحقق مصلحة الطرف، وأن الانتخابات تصبح مصلحة وطنية عندما تضمن الفوز لصاحب المصلحة، وهكذا تصدر كل الأحكام تباعاً وفقاً للمصالح الصغرى، وتحاول أن تلبس ثوب الوطن، وهو ما يعري الجميع، ويزيد انكشاف الحالة أمام مواطن ورأي عام شديد الذكاء يتابع وتختزن ذاكرته كل المواقف، ويستعيدها ساخراً من الحالة كلما تطلب الأمر لمقارنة الموقف كأن القوى تمارس السياسة في حالة فراغ يعززها غياب الرقابة، وتجريد المواطن من أداته الوحيدة في عقاب الأحزاب وهي الانتخابات.
إذا استمرت الحالة الفلسطينية بهذه العشوائية، وبمعايير مزدوجة في كل أحكامها، فإن في الأمر خطراً أكبر على الثقافة السياسية التي يحاول الفلسطيني تكريسها، وستكون قد عادت الأشياء لجيل قادم يعتمد على سوابق الراهن، ويفقد الفلسطيني ميزة أخلاقية في ممارسة السياسة، والأهم تفقده البوصلة التي تسير نحو القدس عندما تصاب السياسة لدى الساسة بهذا القدر من اللامعيارية، خصوصاً أن الفلسطيني تعب من ازدواجية المعايير التي يمارسها العالم.. عليه أن يهز ضميره السياسي قليلاً، فالانكشاف كبير..!