ما أن أعلن وزير الأمن الإسرائيلي الجنرال المتقاعد بيني غانتس، عن ترشيحه الميجر جنرال هرتسي هليفي لمنصب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، حتى انهالت مقالات وتعليقات التبجيل والتعظيم، بأنّه الخيار الأفضل والشخص الأذكى والأكثر اتزانا والتزاما وخبرةً، ما قد يجعل ديّان يغار في قبره.
وجاء في بيان لوزارة الأمن الإسرائيلية أن غانتس اتصل بهليفي لإبلاغه القرار وقال عنه بأنّه «القائد العسكري الأنسب من حيث خبرته العملية الغنية والمتنوّعة، ومن حيث تجربته ومؤهلاته وقدراته القيادية، ونهجه في مختلف القضايا العسكرية، التي أظهرها طوال سنوات خدمته». ومن المقرر أن يستلم هليفي مهامّه الرسمية في مطلع العام المقبل، وسيقضي الأشهر الأربعة المقبلة في تحضير الخطط ودراسة الملفات والقضايا، التي يتابعها رئيس الأركان الحالي، الجنرال أفيف كوخابي، لضمان نقل الصلاحيات بشكل منظّم وسلس، كما يليق بالمسؤولين عن آلة الحرب الإسرائيلية، التي تعتبر أهم مؤسسة في الدولة العبرية.
سبق الإعلان عن تعيين هاليفي جدل بين الائتلاف والمعارضة، فيما إذا كان من صلاحية حكومة انتقالية إجراء تعيينات في مناصب رفيعة مثل رئيس الأركان. وحاول غانتس التخفيف من حدّة هذا الاعتراض باقتراحه التشاور مع نتنياهو وإشراكه في اتخاذ القرار، لكن الأخير رفض ذلك ودعا هو وأنصاره، إلى تأجيل قرار التعيين إلى ما بعد الانتخابات، وإلى عدم فرض أمر واقع على الحكومة العتيدة، التي يأملون أن تكون برئاسة الليكود. ويبدو أن اعتراض نتنياهو لم يكن «تقنيا»، بل لأنّه فضّل منافس هرتسي هليفي الميجر جنرال إيال زامير، الذي عرفه عن قرب حين شغل في ديوانه منصب السكرتير العسكري لرئيس الحكومة. ولعل ما أثار تحفّظ نتنياهو هو أن هاليفي رفض عرضين سابقين لنتنياهو الأول أن يكون سكرتيره العسكري، والثاني أن يشغل منصب رئيس الموساد. وفي معمعان النقاش السياسي حول التعيين عمل غانتس على الحصول على مصادقة قانونية على حقّه في التعيين، حتى تحت سقف حكومة انتقالية. وبعد فترة من الغموض وعدم الوضوح أصدرت المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية، قرارا يسمح لغانتس بتعيين رئيس أركان للجيش، بادعاء الحاجة الأمنية الملحّة، التي تتفوّق برأيها على التقييدات المفروضة على صلاحية الحكومة الانتقالية، بتعيين مسؤولين في مناصب مركزية وحسّاسة. ولكن، وفور الإعلان عن القرار، سارعت كل القيادات الإسرائيلية، بما فيها نتنياهو، إلى مباركة التعيين، وكيل المديح والثناء على الجنرال هرتسي هليفي. وقد فعل نتنياهو ذلك لأنه سيضطر إلى العمل معه، إذا عاد إلى منصب رئاسة الوزراء، ولأنه يسعى إلى الظهور بمظهر رجل الدولة الرصين لاقتناص الأصوات من المركز.
ينص قانون الجيش في إسرائيل على أنّ «المستوى القيادي الأعلى للجيش هو رئيس هيئة الأركان العامة، وهو ملزم بطاعة للحكومة وخاضع لوزير الأمن». وعلى الرغم من وضوح القانون، الذي يعكس رؤية مؤسس الدولة الإسرائيلية دافيد بن غوريون، الذي أراد للجيش دورا وظيفيا، كذراع أمني للمستوى السياسي، فإنّ الواقع مختلف، حيث للجيش تأثير حاسم في صياغة واتخاذ القرارات، التي تعود وتلزمه.
مكانة وتأثير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هي من الوزن الثقيل، وهو، إضافة إلى رئيس الوزراء ووزير الأمن، واحد من الثلاثي المركزي في شؤون الأمن القومي. وبما أن رئيس الأركان هو حلقة الوصل بين المستوى السياسي والعسكري، وهو الذي يحمل إلى القيادة السياسية تقييمات ومواقف ومقترحات الجيش، وله مطلق الصلاحية في إدارة العمليات العسكرية، فإن له الوزن الأكبر في اتخاذ القرار في مجال الأمن. ويقوم رئيس الأركان بممارسة تأثيره عبر مشاركته في جلسات الحكومة والمجلس الوزاري المصغّر، حيث يطرح هو والضبّاط الذين يختارهم، المعلومات والتقييمات والتحليلات والمقترحات أمام الوزراء، الذين ليس لديهم مصادر بديلة وازنة لمناقشة ما يطرحه رئيس الأركان، وعادة ما يصدرون الأوامر، التي يريدهم الجيش أن يصدروها.
رئيس الأركان الإسرائيلي هو مسؤول الحرب والعنف والقتل والدمار، وله، في هذا المجال، الكلمة الأخيرة وغالبا الكلمة الأولى أيضا
رئيس الأركان في إسرائيل هو مسؤول العنف الأول، ومن شبه المستحيل أن تمر عملية عدوان عسكرية دون موافقته، على الرغم من أن القانون الجاف ينص على خضوعه لقرارات الحكومة. فمن المعروف أنه في عام 2012 حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن في حكومته إيهود براك تمرير قرار بتوجيه ضربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني، ولكنّهما اضطّرا للتراجع بسبب معارضة رئيس الأركان السابق، جابي اشكنازي والمؤسسة الأمنية. وحاول الاثنان تمرير القرار مرّة أخرى، بعد تعيين بيني غانتس رئيسا للأركان، ولكنّه عارض بشدّة ليس لاعتبارات عسكرية، بل لاعتبارات سياسية استراتيجية طالبا الحصول على موافقة مسبقة من الرئيس أوباما. كذلك أفشلت رئاسة الأركان الإسرائيلية محاولة نتنياهو شن عدوان على غزّة عشية الانتخابات في سبتمبر/ أيلول 2019. في المقابل حدث العكس، حيث قاد رئيس الأركان الجيش إلى تجاوز حدود قرارات حكومية بشأن عمليات عسكرية، كما حدث في الحرب على لبنان عام 1982، وفي العمليات العسكرية «الخاصّة»، التي قام بها شارون ووحدة الكوماندوز 101، المعروفة بارتكابها أبشع الجرائم. باختصار فإن رئيس الأركان الإسرائيلي هو مسؤول الحرب والعنف والقتل والدمار، وله، في هذا المجال، الكلمة الأخيرة وغالبا الكلمة الأولى أيضا.
الجنرال هليفي هو أوّل مستوطن يصبح رئيسا للأركان في إسرائيل.. ويسكن في مستوطنة «كفار أورانيم» التي أقيمت عام 1998 فوق أراضي قرية شلتا، المشرفة على وادي نتوتن في منطقة رام الله، وتتبع من الناحية الإدارية إلى المجلس الإقليمي الاستيطاني «ماطي بنيامين». ومع أنّه يسكن في مستوطنة إلّا أنه يرفض أن يسمّى مستوطنا، لأن في ذلك برأيه إشارة الى ميول سياسية محدّدة، وهو كعسكري يريد الابتعاد عن النقاشات الدائرة في المجتمع الإسرائيلي. ومع أنّ مواقفه السياسية المحدّدة ليست واضحة، فهو بالتأكيد كما يصفونه «صهيوني حتى النخاع»، وجدّه كان محاربا في منظمة «الايتسل» الإرهابية، وجدته هي ابنة أخ الحاخام «كوك»، الأب الروحي للتيار الديني الصهيوني الاستيطاني، وهو متديّن لكنّه لا يضع فوق رأسه الطاقية الخاصة بالمتدينين اليهود. سمّي هرتسي هليفي باسم عمّه الذي قتل خلال احتلال القدس الشرقية عام 1967، ودرس في مدارس التيار الديني الصهيوني، وحصل على لقب جامعي في الفلسفة وآخر في إدارة الأعمال. تدرّج هليفي في المناصب العسكرية، فكان قائدا لوحدة الكوماندو الخاصة «سييريت ماطكال»، ومسؤولا عسكريا في منطقة جنين والمنطقة الجنوبية والشمالية وقائدا للواء المظليين ورئيسا لشعبة المخابرات العسكرية، وصولا إلى منصب نائب رئيس الأركان، وهو الموقع الذي أهّله للترشح لموقع القيادة العليا. شارك هليفي في عدد كبير من العمليات العسكرية العدوانية للجيش الإسرائيلي، منها عملية «اللدغة السامّة»، التي جرى خلالها اختطاف الشيخ اللبناني مصطفى ديراني، واقتحام الضفة الغربية خلال عملية «الدرع الواقي» وعدوان «الرصاص المصبوب» على قطاع غزّة، وشارك في عشرات الهجمات العسكرية الأخرى، وهو لم يعيّن رئيسا للأركان بسبب مؤهلاته العسكرية فحسب، بل أيضا استنادا إلى رصيده الدموي.
الغريب أن أوّل من نصّب هاليفي رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي هي صحيفة «نيويورك تايمز»، التي نشرت في نوفمبر 2013، تقريرا مطوّلا عنه ووصفته بالجنرال الفيلسوف، وبأنّه أكثر حكمة وذكاءً من بقية ضباط القيادة العسكرية الإسرائيلية، وأوردت الصحيفة «دليلا على حكمته» بأن معارضته لخطّة اقتحام المقاطعة، واعتقال الرئيس الراحل ياسر عرفات، أدّت إلى إلغائها، حيث عبّر عن خشيته من إمكانية مقتل الرئيس في العملية، ما سيسبب أزمة كبيرة لإسرائيل. وطرح هليفي خلال التقرير، نظريته الأمنية، المبنية على «إدارة الصراع» وعلى أن «السلام هو الوقت اللازم للاستعداد للحرب»، مضيفا بأن «علينا أن نكون جاهزين لدفع الثمن في حرب لتكون أكثر صرامة وعنفا، حتى تطول المدّة الفاصلة بين حربين». كان تقرير «نيويورك تايمز» من أوّله إلى آخره مديحا متواصلا للجنرال «الفيلسوف»، وخلا من أي إشارة إلى جرائم الحرب، التي قاد تنفيذها أو شارك فيها. ووصفته الصحيفة بصفة فيلسوف لمجرد أنه درس الفلسفة في الجامعة، ولأنّه تشاطر قائلا: «اعتاد الناس أن يقولوا لي بأن إدارة الأعمال تساعد في الحياة العملية والفلسفة للروح، إلّا أنني وجدت على مرّ السنين أن الأمر عكس ذلك، فقد استخدمت الفلسفة بشكل عملي أكثر». ويبدو أنّ الاستعمال العملي للفلسفة يندرج ضمن مفاهيم مدرسة «العقلانية الإجرامية» المهيمنة على المؤسستين السياسية والأمنية في الدولة العبرية. وعبّر التقرير عن موقف الصحيفة الأمريكية، الداعم للجيش الإسرائيلي، ولو أن عندها بعض الانتقادات على سياسات اليمين الإسرائيلي، فهي وإن عارضت الحكومة الإسرائيلية أحيانا فهي متماهية تماما مع «الدولة اليهودية»، التي يمثّلها أكثر ما يمثلها الجيش الإسرائيلي. المهم أن الصحيفة خلصت إلى ما يشبه الحزم، قبل تسعة أعوام، بأن هليفي «يعتبر المرشّح الأبرز والأقوى ليصبح في يوم ما رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي». لماذا صدقت نبوءة «نيويورك تايمز»؟ هل هي صدفة؟ أم «الشبكة الأمنية» رسمت عليه حينها وجرى تسريب ذلك للصحيفة.
في ظل الأزمة السياسية المتواصلة، التي تعصف بالكيان الإسرائيلي، ازدادت أهمية ودور المؤسسة العسكرية، وطغى تأثير من يقف على رأسها على اتخاذ القرار في شؤون الأمن القومي. هذه المؤسسة مسؤولة مباشرة عن كل ما يحدث في الشأن الفلسطيني بلا تدخل يذكر للمستوى السياسي، كما أن لها القول الفصل بكل ما يخص المواجهات المحتملة مع إيران وسوريا ولبنان وغزّة والضفة الغربية وحتى الداخل الفلسطيني. وعليه فإن رئيس الأركان الجديد لا يقل أهمية عن رئيس الوزراء أو وزير الأمن في إسرائيل. وإذا صحّت الأقوال بأنه الأذكى والأكثر حكمةً ودهاءً، فهذه مصيبة لأنه سيكون قادرا على إتقان ارتكاب الموبقات بنجاعة.