أين البحث العلمي في مؤسساتنا؟؟

حجم الخط

بقلم عقل أبو قرع

 

سواء كانت مؤسسات عامة مثل الجامعات أو المعاهد أو الكليات، سواء حكومية أو غير حكومية، أو مؤسسات تتبع القطاع الخاص بأنواعه، أو مؤسسات المجتمع المدني غير الربحية وهي كثيرة ومتنوعة، لا يوجد زخم باتجاه البحث الحقيقي من أجل التطوير أو تلبية حاجة أو الإجابة عن تساؤل أو حل إشكال ما، وفقط يتم إجراء الأبحاث من أجل صرف ميزانية مخصصة لهذه الجامعة أو تلك، أو للإعلان أن هناك بحثاً علمياً في هذه المؤسسة أو تلك، وبالتالي من باب الدعاية، أو من أجل الادعاء أن تلك الشركة تملك قسماً للأبحاث والتطوير في حال القطاع الخاص، أو من أجل صرف ميزانية لأحد المشاريع أو البرامج تحت بنود الدراسات وإعداد التقارير، أو أوراق الحقائق والسياسات فيما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني، ومع انتهاء الميزانية المخصصة لذلك يتم دفن نتائج الأبحاث والدراسات في الأرشيف حتى حين.
ومع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم مؤسسات التعليم العالي، ومع توجه الطلبة والأساتذة بأمل أن يحقق العام الجديد آمالهم وطموحاتهم، ومع البدء الفعلي للدوام، يكتشف الطلبة والأساتذة وبالأخص الجدد منهم واقع التعليم العالي عندنا، من حيث عدد الطلبة المتراكم في الصفوف الدراسية، والذي قد يزيد على الـ 50 طالباً في الغرفة، ويصل العدد إلى المئات في قاعات المحاضرات، ويكتشفون الضغط الزمني وعدم وجود الوقت والتفكير خارج الإطار، وتراكم الأعمال من تصحيح الامتحانات وتحضير الأسئلة وإنجاز العلامات، وما إلى ذلك، لكي ينسى الأستاذ والطالب مسلك البحث العلمي ونتائجه ونشر الأبحاث وحلّ احتياجات المجتمع، والذي يعتبر من أهم أسس تصنيف الجامعات، حيث تتبوأ الجامعات المرموقة في العالم أعلى الهرم من خلال الاستثمار في البحث العلمي، وبشكل إستراتيجي ومستدام.  
وبين الفترة والأخرى، تعلن الجامعات الفلسطينية عن احتلالها مواقع جيدة ضمن أفضل الجامعات في العالم، وذلك حسب تصنيف مؤسسات دولية مختلفة. وتصنيف مؤسسات التعليم العالي يتم في العادة بناء على معايير متفق عليها، لها علاقة بالمؤسسة والأكاديميين والأبحاث، وموقع نشر الأبحاث، ونوعية الأبحاث والطلبة، والعلاقة مع المجتمع، وما إلى ذلك. وبالطبع، فإن احتلال جامعات فلسطينية مراتب متقدمة يعتبر إنجازاً لأيّ جامعة احتلت أو تحتل مراتب متقدمة. وفي نفس الوقت يبقى الأهم الحفاظ على هذه المراتب، والتقدم في سلّم التصنيفات، والأهم كذلك استثمار أهم معيار لتصنيف الجامعات، أي نوعية الأبحاث في خدمة المجتمع.
وقبل فترة، ومن خلال استفتاء قامت بإعداده مؤسسة أميركية، من أجل تصنيف أفضل 400 جامعة في العالم، تبيّن أن الجامعات الأميركية والبريطانية احتلت المراتب العشر الأولى، وكان من ضمن قائمة الأربعمائة جامعة، جامعتان عربيتان فقط، ولم تتبوأ الجامعات الفلسطينية مكاناً ضمن الـ 400 جامعة الأفضل في العالم، واستخدم الاستفتاء كما جرت العادة كل سنة، حوالى 13 معياراً عالمياً لتحديد مستوى الجامعات، منها البيئة الأكاديمية، ومستوى الأبحاث، ومدى استخدام أو الاستعانة بالأبحاث من قبل الآخرين، والإبداع أو الابتكار، والنظرة العالمية للجامعة ونظرة العالم للجامعة، ونوعية الطلبة وعددهم مقارنة مع الهيئة الأكاديمية، وغير ذلك.
ورغم التقدم الذي حققته المؤسسات الفلسطينية الأكاديمية وغير الأكاديمية، إلا أنه بكل موضوعية لم نواكب التقدم النوعي في التعليم أو التعلم الذي حصل ويحصل في العالم، من حيث أهمية الأبحاث، وتطبيقاتها في المجتمع، وبالتالي العلاقة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني. وصحيح كذلك أن التعليم لا يقع ضمن أولويات الدعم الرسمي والأهلي، وصحيح أيضاً أنه ما زالت توجد تخصصات مكررة في معظم مؤسسات التعليم العالي، وبالكاد يحتاجها المجتمع أو يجد خريجوها وظائف. وصحيح كذلك أن مؤسسات التعليم العالي في بلادنا باتت تتسابق على أعداد الطلبة وبالتالي أقساطهم، متناسية الجودة والأبحاث والنوعية، وبالتالي مواكبة الجامعات العالمية.  
وفي التصنيف العالمي الأخير لمؤسسات بحثية عالمية، على سبيل المثال، كان ملفتاً احتلال خمس جامعات تركية على الأقل مراكز جيدة في التصنيف، وهذا يعكس مدى الاهتمام الرسمي وغير الرسمي بالتعليم العالي، خاصة الأبحاث، والأهم تطبيقاتها في خدمة البلد والاقتصاد، وبناء المؤسسات والتنمية في بلد مثل تركيا، حيث لم تكن لهذا الملف الأهمية اللازمة قبل فترة وجيزة.
ولا عجب إذا علمنا أن التعليم وبند موازنة التعليم العالي يحتلان الرقم الأعلى من ضمن بنود ميزانية الدولة التركية، أي أن الدولة تنفق على التعليم أكثر من أيّ من القطاعات الأخرى، ومن ضمنها الصحة والأمن والرفاه الاجتماعي. ولا عجب كذلك إذا علمنا أن الاقتصاد التركي بات من ضمن الاقتصادات العشرين الأقوى في العالم، وهذا له علاقة مباشرة وغير مباشرة بنوعية التعليم وإفرازاته من أبحاث وتطبيقات.
ورغم وجود «مجلس للبحث العلمي» في بلادنا، وعلى ما أعتقد يتبع لوزارة التعليم العالي، ورغم ما نقرأ في الأخبار عن عقد هذا المجلس اجتماعات دورية بين الفترة والأخرى، إلا أن ما نعرفه عن هذا المجلس يبقى ضئيلاً، سواء فيما يتعلق بتركيبته أو أهدافه أو ميزانيته، والأهم الإنجازات التي تم تحقيقيها، ومدى تأثير ذلك على التطوير وحلّ مشاكل الناس والبلد والتقدم، هذا بالإضافة إلى وجود مجلس الإبداع والابتكار، ولا أعلم إلى أيّ وزارة أو هيئة يتبع، والذي لا نعرف عنه الكثير كذلك.  
ورغم مواصلة افتخار المجتمع الفلسطيني بأنه مجتمع متعلم ويملك الكثير من مؤسسات التعليم العالي، إلا أن عدم التطور من ناحية مفهوم التعليم العالي ونوعيته، خاصة المعايير العالمية التي يتم تصنيف التعليم والبحث علي أساسها، وهي البيئة الأكاديمية التي تشمل نوعية الطلبة والعاملين والمنهاج والأسلوب، وكذلك نوعية الأبحاث والدراسات، وكذلك مدى استفادة المجتمع أو استخدام الناس للأبحاث، وأيضاً مستوى الإبداع أو التجديد، إذا لم يتم أخذ هذه المعايير بعين الاعتبار، ستبقى المؤسسات الفلسطينية بأنواعها بعيدة عمّا يتم من تطوّر في العالم، وما دامت مؤسسات التعليم العالي لا تولي البحث العلمي الأهمية المطلوبة، ستبقى هذه المؤسسات بعيدة عن التقدم أكثر وأبعد عن احتلال مراكز متقدمة في سلّم البحث على مستوى العالم.