ظريفة ورحلة البحث عن الجذور:‏ من أمريكا إلى غزة!!‏

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

 بقلم:د. أحمد يوسف

 

 

لم يكن سهلاً على فتاة في العشرينيات من عمرها أن تقطع الطريق سفراً ‏بالطائرة من مدينة سياتل في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية إلى ‏قطاع غزة مروراً بالقاهر وصحراء سيناء.. رحلة امتدت لألاف ‏الكيلومترات جواً وبراً، كانت فيها الفتاة القادمة من الغرب تُقلب عينيها في ‏كلِّ ما يتحرك من حولها، لفكِّ لغُز الجذور التي جاءت تبحث عنها لشحن ‏ذاكرتها بمشاهدٍ وأسماء لطالما سمعت عنها الكثير من والدها الدكتور ‏رمزي بارود، الكاتب والناشط الإعلامي المشهور ورئيس تحرير مجلة ‏‏(وقائع فلسطين- ‏The Palestine Chronicle‏).‏
لم يكن الأمر بالنسبة لظريفة مجرد رحلةٍ لاستكشاف جزءٍ من أرض ‏فلسطين، حيث طفولة والدها ومدارج صباه، والتعرف على من تبقى من ‏الأعمام والعمّات وأقارب العائلة من (آل بارود)، مع انعطافةٍ لإطلالة ‏ميدانية على مخيم النصيرات المحاذي لشاطئ بحر غزة، حيث كان بيت ‏جدها وجدتها، ثم العودة آخر النهار وقد أخذ منها التعب مأخذه إلى ‏خانيونس، حيث تقيم عمتها الطبيبة سومة بارود. ‏
كانت ظريفة تريد أن تلتهم بعيونها كلَّ الأماكن، فلا تترك مكاناً أو مشهداً ‏سبق أن سمعت به في الأخبار أو خلال الحروب المتكررة على قطاع ‏غزة إلا وشدَّت رحالها إليه ووثقته بكاميرة الجوال التي لا يفارق يدها، ‏هي لم تتردد في الاستجابة لكثير من الدعوات أو الأنشطة، التي وجِّهت ‏لها في سياق الفعاليات الوطنية إلا وذهبت إليها.‏
لا شكَّ أن والدها قد فتح لها بعلاقاته الواسعة أبواباً مهمة لكي تلجِّها، ‏وتُجري من اللقاءات والمقابلات ما يخدم اطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه، ‏وتأسيس صداقات مع نشطاء المجتمع المدني في قطاع غزة، وإقامة شبكة ‏تواصل واسعة لخدمة القضية الفلسطينية إعلامياً في موطن إقامتها وعملها ‏في أمريكا. ‏
لقد سعدت باستضافتها في بيتي مع زوجتي ليومين؛ حيث تذاكرنا فيها ‏أمريكا التي أقمنا فيها حوالي العشرين عاماً. إنَّ معرفتي بوالدها ووالدتها ‏تعود إلى سنوات سبقت ميلادها، وكنت حريصاً أن تعدَّ لها زوجتي طعاماً ‏اشتهر أهلنا في فلسطين بطهيه كالمقلوبة والمفتول، إضافة لوجبة الصباح ‏والعشاء من الفول والفلافل وطبق الحمص بالبقدونس وزيت الزيتون. ‏
كان عليَّ اصطحابها مع رهام -ابنة أختي- والتي تقاربها في العمر ‏وتتحدث مثلها الإنجليزية بطلاقة، لرؤية بعض الأماكن الحضارية في ‏مدينة غزة لمشاهدة جمال العمران وأناقة المكان، التي تضاهي بجمالها ‏ونظافتها أماكن أخرى في الحواضر الغربية، كفندق المتحف ومسجد ‏الخالدي، وتجد فرصة لتحرك قدميها وسط زحام المساء في منطقة ‏الميناء، ولكي تتذوق الذرة المشوية والآيس كريم بالنكهة الفلسطينية. ‏
في المساء، ونحن نتناول وجبة العشاء في البيت، سألتني: هل تعلم أين ‏المكان الذي قتلت فيه إسرائيل المتضامنة الأمريكية (راشيل كوري) عام ‏‏2003 بمدينة رفح؟ فأجبتها: سأسائل، ثم -إن شاء الله- آتيك بالجواب.‏
شاركت ظريفة في بعض الأنشطة الشبابية، وقد أدلت بدلوها في سياق ‏الرأي والمشورة وتحدثت عن تجربتها في أمريكا، وسلطت الضوء على ‏الأعمال التي تقوم بها من خلال المنظمة التي تعمل بها، ويطلق عليها اسم ‏‏(أمريكيون من أجل العدالة في فلسطين).‏
لا شكَّ أنَّ الفلسطينيين في أمريكا والجالية المسلمة بشكل عام أمامهم ‏مشوارٌ طويل من الجهد والمثابرة والتنظيم، والتحرك في مجال الحشد ‏والتعبئة والعمل السياسي، لتحقيق اختراق كبير وحقيقي في السياسة ‏الأمريكية، وإمكانية التأثير في الرأي العام المنحاز بشكل عام لإسرائيل، ‏وإن كانوا اليوم قد تمكنوا -ولو بنسبة لا بأس بها- من إيصال رسالتهم ‏لأعضاء بالكونغرس الأمريكي، حيث أصبح هناك ممثلون عرب ‏ومسلمون، مثل رشيدة طليب وإلهان عمر، وهم يدافعون بقوة عن القضية ‏الفلسطينية، وما تشكله مأساتهم ومظلوميتهم من مسؤولية سياسية وإنسانية ‏وأخلاقية على الضمير الغربي، وهذه -حقيقة- لم تكن موجودةً بمثل هذا ‏الزخم والفعالية خلال السنوات العشرين السابقة".‏
قبل أن تغادرنا ظريفة عائدة إلى أمريكا، طرحت عليها سؤالاً حول ‏أحاسيسها ومشاعرها وانطباعاتها وتمنياتي بعد هذه الرحلة، التي أخذت ‏منها شهرين.‏
فأجابت: وصلت إلى غزة لأول مرة من حياتي؛ أي بعد 23سنة من ‏عمري.. وعلى الرغم من أنني لم أشاهدها على الإطلاق، إلا أنني كرَّست ‏مهنتي وتعليمي لفلسطين والنضال من أجل العدالة وإنهاء الاستعمار.‏
كانت هذه الزيارة هي المرة الأولى التي التقي فيها بأهل والدي، وهي -بلا ‏شك- تجربة عاطفية وقوية بشكل لا يُصدَّق، وخاصة بسبب تلك الحروب ‏المتكررة على قطاع غزة، وهذا ما دفعني وأنا أغادر أن أتساءل: تُرى ‏هل ستتاح لي الفرصة لرؤيتهم ثانية؟ ‏
‏ خلال شهرين من وجودي في غزة، زرت قبري جدي الحبيب محمد ‏وجدتي ظريفة، التي أحمل اسمها بكل فخر. وقد زرت كذلك المخيم الذي ‏ولد فيه والدي وترعرع ومدرسته الابتدائية وموقع منزل عائلته القديم، ‏الذي دمره القصف الإسرائيلي في عام 2014.. مشيت في نفس الأزقة ‏والشوارع التي كان والدي يسير عليها عندما كان طفلاً، وتخيلت كل ‏القصص الجميلة التي كان يرويها لي عن سنوات وأحداث طفولته في ذلك ‏المخيم.‏
لقد شعرت بارتياح شديد وأنا أمشي على الأرض التي حطت عليها أقدام ‏والدي والشوارع بأزقتها الضيقة وحواريها المتلاصقة.. مشاهد تخيلت فيها ‏أبي يقطعها كل يومٍ ذهاباً وإياباً على قدميه.‏
وعلى الرغم من أنني أتواصل مع وطني من خلال عملي وأبحاثي، إلا أن ‏وجودي في فلسطين حقًا هو شعور لا يمكن تكراره، وقد علَّمني أكثر مما ‏كنت أتخيله. لقد علمتني زيارة غزة الآن ماذا تعني المعاناة، ولكن الأهم ‏من ذلك كله معنى الصمود؛ الثبات والتحدي. ‏
‏ رحلتي، على الرغم من أنها كانت شهرين فقط، إلا أنها أمدتني بالكثير ‏من القوة والعزيمة والشغف لنُصرة أهل وطني والعمل من أجل أن تتحرر ‏فلسطين، وتتحقق أحلامي في العودة إليها مستقبلاً مع أولادي وأحفادي.‏