أوسلو .. موسمية الذكرى ونقاش مبتور ...!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 

في كل مرة يتجدد النقاش بين الفلسطينيين حول أوسلو في ذكرى التوقيع قبل تسعة وعشرين عاما في حديقة البيت الأبيض معلنا انتهاء فصل في تاريخ العلاقة بين الشعبين، وكعادتهم فالفلسطينيون البارعون في البحث عن نقاط الخلاف وجعلها مادة لزيادة التفتت والعاجزون عن التقاط العوامل الجامعة يجعلون من الذكرى حدثا يتم تناوله بمواقفهم المسبقة للانتصار كل على الآخر على نمط «كنا أفهم منكم «، وليس للاستفادة من تجربة التاريخ.
«حماس» كعادتها تعيد الدرس المحفوظ بأن أوسلو كان النكبة الجديدة للشعب الفلسطيني وأن كل ما يحدث للفلسطينيين هو نتيجة طبيعية لذلك الاتفاق المشؤوم. أما حركة فتح فتعتبر أن هذا الاتفاق هو من أعاد الشعب الفلسطيني على الخارطة من جديد وسمح بنقل المعركة للداخل ويغمز ويعيب مؤيدوها على حركة حماس التحاقها بهياكل أوسلو ومشاركتها بمجلس أوسلو.
هذا الحوار المتكرر أبقى الفلسطينيين أسرى ماضٍ صحيح أنه أعاد صياغة كل تفاصيلهم في العقود الثلاثة الأخيرة، ولكن الحوار لا يقدم للحاضر سوى مناكفة ومزيد من مزايدة أتقنوها بجدارة في السنوات الأخيرة وكانت وقودا ضروريا لضمان استمرار انقساماتهم.
هل كان اتفاق أوسلو قرارا فلسطينيا اتخذ في ظروف مريحة أم أنه كان ابناً لمناخات تاريخية ؟ وهنا يمكن أن تكون القراءة أكثر دقة، فأحداث التاريخ لا يمكن قراءتها بمعزل عن سياقاتها ومناخاتها ولحظتها التاريخية وإلا تحول علم التاريخ وقوانين السياسة إلى ما يشبه الرياضيات في معادلاته ....لكنه أقرب للكيمياء ومختبرها وزمنها وظروفها.
لم يعمل التاريخ في صالح الفلسطينيين مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، سواء بانهيار الحليف الاستراتيجي الاتحاد السوفييتي وتفرد الولايات المتحدة حليفة إسرائيل بقيادة العالم وإعادة رسمه من جديد وبما يقتضي إنهاء القضية الفلسطينية وإسقاطها لصالح حليفها أو بالنكبة التي حلت بالعرب إثر حرب الخليج الأولى ودخول الجيش العراقي لعاصمة عربية وهي الكويت، وما تبعها من اصطفافات عربية خلف الولايات المتحدة ويكون الفلسطيني لسوء حظه في الجانب المهزوم فيما كان الإسرائيلي في الجانب المنتصر.
في تلك المناخات تحول الفلسطيني إلى منبوذ، وكانت جذوة الانتفاضة قد بدأت تخبو ومع حصار يتعرض له النظام السياسي الفلسطيني ويمهد لإعادة القضية للحالة العربية بعد أن تمكن الفلسطينيون من تسيُّد قرارهم المستقل وقاتلوا من أجله «الوفد الفلسطيني في مدريد تم إلحاقه بالوفد المشارك مع الأردن ولم يسمح للفلسطيني أن يمثل نفسه»، ظهر هذا المستجد وسط كل الانهيارات الكبرى التي وقعت على رأس الفلسطيني وكانت أكبر كثيراً من قدرة الفلسطينيين على تحمل وقعها.
في كتابه «سلام الأوهام أوسلو ما قبلها وما بعدها» نقل محمد حسنين هيكل صورة تاريخية لحوار بينه وبين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عندما استدعى هيكل للمشاورة في الاتفاق المعروض، يقول هيكل إنه لم يرَ ياسر عرفات في حياته متردداً كما شاهده في ذلك اليوم جاسا على كرسيه يتقدم ويتراجع مرة يقول: لست من يوقع على اتفاق كهذا.. يصمت قليلا.. ثم يقول: لكن لو لم أوقع ستجرفنا العاصفة ونتبدد.
تلك هي المناخات وتلك هي الخيارات التي ضاقت بالفلسطينيين. والسؤال يمكن أن يكون معكوسا ربما أفضل للفلسطينيين وللنقاش وهو سؤال افتراضي تتحمله اللعبة السياسية التي تضع أسئلتها الافتراضية دوما حين تتخذ القرار السؤال : ماذا لو لم يوقع اتفاق أوسلو ؟ وهو سؤال تفتح إجابته ربما على سياق يمكن أن يهدئ من روع النقاش الموسمي المحتدم.
ولكن التجربة الفلسطينية تقول إن الفلسطينيين لا يقدمون إجابات علمية لواقعهم بل إجابات إشكالية سيختلفون أيضا في الإجابة الافتراضية. فكيف لشعب مختلف على تفسير واقع يثبت لهم يوميا وأمام أعينهم كل هذه الحقائق التي يكذبونها كيف سيتفقون على إجابة سيناريو لم يتحقق ؟ وتلك معضلة.
أوسلو هو ابن لظروف انكسر فيها ظهر الفلسطيني، ومن السذاجة تصور انتصارات في تلك الظروف فالسياسة هي ابنة الممكنات لا الإرادة فقط ابنة الواقع وليس التمني.
وقد تعرضت حركة حماس إلى ما يشبه ذلك خلال حصارها في غزة فاضطرت لقبول أوسلوات مصغرة هدفت لتهدئة الصدام وتلك هي السياسة. فالأزمة ليس في النوايا ولا في قدرة القيادة بقدر ما هي في العوامل المحيطة.
وفي التجربة الفرنسية حين تم احتلال باريس لأربع سنوات واضطرار المارشال «بيتان لتوقيع اتفاق الاستسلام» في محطة كومبين درس في الواقعية فهو نفسه البطل المنتصر في الحرب العالمية الأولى وهو نفسه من يوقع استسلام فرنسا في الحرب العالمية الثانية بفارق ربع قرن.
أربعة أطراف جعلت اتفاق أوسلو يصل إلى هذا الفشل. صحيح أنه وليد مناخات المنتصر والمهزوم لكن كل الأطراف تعاونت دون اتفاق على إفشاله وهي الأطراف الأربعة في الحالتين الفلسطينية والإسرائيلية بدءا من الجانب الفلسطيني - حركة فتح التي استمرت بأدائها الفوضوي ولم تنشئ مؤسسات مقنعة أمام العالم وما زالت، وثانيها حركة حماس التي رأت في الاتفاق في حال نجاحه تهديداً لمشروعها وبدأت منذ اللحظة الأولى وقبل اختباره حتى في إفشال الاتفاق.
وعلى الجانب الإسرائيلي كان حزب العمل أكثر دهاء مما اعتقد الفلسطينيون، ما بين فائض الدهاء وفائض الهوس الأمني ومواعيد رابين غير المقدسة ومكر شمعون بيرس «اللقاء مع متيران بعد أوسلو فيه اعتراف صريح بالمكر الإسرائيلي» وأيضا المعارضة الإسرائيلية التي قتلت إسحق رابين واعتلت الحكم بعد عمليات المعارضة الفلسطينية لم توفر فرصة وصولها لجعل أوسلو جزءا من التاريخ منذ أن أقسمت غيئولا كوهين وهي تبكي على بوابة الكنيست يوم توقيع الاتفاق. وجاء المخلص لتلك المدرسة لينفذ حلمها محمولا على أكتاف اللحظة التي مهدت لها عمليات المعارضة الفلسطينية.
التاريخ لا تتم قراءته للمناكفة إلا لدى الشعوب البدائية لكن الشعوب الحية تقف عند واقعها وتعيد تقييم التجربة، تنظر لتجربتها وتقيم مدى صلابة الأرض التي تقف عليها لتنطلق في رحلتها.
أما استمرار البكائية الموسمية على أوسلو الذي تعاون الجميع على دفنه حتى قبل أن يتنفس فهذا لا يعكس شعباً يستفيد من تجاربه.