في أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت بدايات التزامي الإسلامي، وكان من أوائل الكتب التي قرأتها لفهم السياسة الدولية كتاب (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند، وهو يدور حول السياسة كونها لعبة شطرنج يلعبها الكبار. والثاني؛ كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج)، لضابط الاستخبارات الكندي وليم غاي كار.
وبصراحة؛ إنَّ أول ما خطر ببالي عندما شرعت في كتابة هذا المقال كان هذان الكتابان، وما ورد فيهما من إشارات حول "القوى الخفية" والمنظمات السرِّية العالمية ودورها في تشكيل الخريطة السياسية والاقتصادية لهذا العالم الذي نعيش فيه.
اليوم وخلال لقاءات قيادة حركة حماس مع القيادات الروسية وفي ظل تحولات دولية جديدة تتشكل، تكون حركة حماس قد دخلت كبيدق على رقعة الشطرنج العالمية.
في الحقيقة، ربما لا يظهر في المشهد إذا ما كان الإسلاميون على قلب رجل واحد فيما يتعلق بالموقف تجاه روسيا، فأيدي الروس ملطخة بدماء المسلمين، فجرائمهم البشعة وصور الدمار ومشاهد القتل وسفك الدماء في أكثر من بلد عربي وإسلامي ما تزال حاضرة، وأنَّ ما لحق بالشعب السوري من مآسٍ وكوارث إنسانية ما هو إلا مجرد مشهد قريب لما ارتكبه الروس المتواطئين مع النظام من مجازر دامية كانت سبباً وراء عمليات التهجير القصري للملايين من الناس، ولكل من رفع عقيرته محتجاً من الإسلاميين هناك.
اليوم، هناك أكثر من لقاء جرى بين حركة حماس والخارجية الروسية، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي ترجوه حركة حماس من وراء مثل هذه اللقاءات؟ وهل القضية هي البحث عن الشرعية أم إقامة تحالف، وهل الغرض يقتصر فقط على الالتحاق بمعسكرٍ أمميٍّ مناوئ لأمريكا والغرب آخذٌ في التشكِّل، وتأمل قيادة حماس من تقاربها معه الحصول على الدعم العسكري وتحسين الوضع الميداني لحركة حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ أم أنَّ المسألة هي فقط مجرد فرصةٍ لردِّ الجميل لمواقف روسيا الداعمة للقضية الفلسطينية والمتفهمة لمشروعية المقاومة التي تمارسها حركة حماس؟ أم أنها خطوة ذكية من بوتن لكسب الرأي العام الإسلامي الذي يُشكِّل خُمس سكان العالم لجانب سياسة روسيا في أوكرانيا، وذلك في الوقت الذي تسعى فيه أمريكا والدول الغربية المتحالفة معها لشيطنة روسيا وإظهارها بالدولة المارقة المعتدية التي ترتكب جرائم حرب في أوكرانيا وتنتهك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني؟
في الحقيقة، ليس من الصعب فهم نوايا روسيا، وما الذي تهدف إليه من وراء فتح باب العلاقة مع حركة حماس، وهذه المبالغة في تظهير مثل هذه العلاقة وتوثيقها بالصور والمقابلات التلفزيونية، فيما لا تشكل حماس -عملياً- بالنسبة لروسيا ضرورة أو حاجة ميدانية، وإنما -وهذا ما يتحدث به البعض- ورقة لتسويق روسيا كدولة صديقة لعالمنا الإسلامي، وما يعنيه ذلك من ثقل أو مدى على مسطرة قياس الرأي العام في العالمين العربي والإسلامي، الذي تحاول أمريكا جاهدة لكسبه أو تطويعه لصالحها.
السؤال الآخر الذي يدور في رؤوس القواعد الشعبية الإسلامية: ما الذي تريده حركة حماس من وراء هذه العلاقة مع دولة عظمى متورطة في حرب ترى فيها أمريكا والغرب أنها عدوان على دولة مستقلة في الجوار الأوروبي؟!
نعم؛ نحن نتفهم أن أوكرانيا دولة تتم المتاجرة بمظلوميتها في سياق ما يسمى بالحرب الباردة الجديدة، حيث الهدف هزيمة روسيا، وإبطال مفعول قدراتها فيما تحاول إنشاءه من نظام عالمي جديد متعدد القطبية، وشطب حالة التغول التي تنفرد بها أمريكا على حساب باقي دول العالم وشعوبه.
ولكن.. نحن والكثيرون معنا في المشهد السياسي الفلسطيني، يداهمنا -بحيرة واستغراب- السؤال التالي: أين موقع حماس من الإعراب هنا، وفي ظل هذا المشهد الكبير والغامض من لعبة الأمم؟!
لا شك أن حركة حماس في تحركاتها تلك لها أحلام وطموحات تطمع في تحقيقها، بهدف الخروج من طوق العزلة والحصار، والانفتاح على علاقة مع دولة عظمى يمكن في سياق الحرب الباردة الجديدة أن تمنحها ببعض الشرعية وتمدها بالسلاح المطلوب لحالة المدافعة مع الاحتلال، وأيضاً حماية حماس مما تُروِّج له أمريكا والغرب من اتهامات لها بالتطرف والإرهاب.
في الواقع، وبعيداً عن حالة التهويل والمبالغة، فإن هناك من يرى بأن حركة حماس اليوم مجرد بيدقٍ بيد البعض يراهن على توظيفه خدمة لمصالحه وإن بطرفٍ خفي، فيما الحركة حريصة دائماً على التأكيد بأنها ليست بيدقاً بيد أحد، وأن ما يُحرِّكها هو مصالح شعبها وقضيته، التي تحاول إسرائيل والغرب المتحالف معها تصفيتها.
لقد سبق للرئيس عرفات (رحمه الله) أن فرض حضوره في المشهد الدولي وخاصة في العالمين الغربي والإسلامي، وكان يتحرك -أحياناً- على تلك الرقعة الواسعة من لعبة الشطرنج باعتبار أنه "الملك"، فكان الكلُّ يخشاه ويتقرب إليه ويمده بالمال والمواقف، ولكن - للأسف- فإن بيادقه مع السنين تهاوت، وجاء من يقول له: "كش ملك".
مع الأسف، خسر عرفات اللعبة لحساب أطراف وجهات أخرى، ووصل المشهد الفلسطيني للحالة التي نحن عليها الآن، من حيث تداعي الأكلة على قصعتنا، والعمل على كسر شوكتنا حتى من أبناء جلدتنا، ومن خاصات حاضنتنا الوطنية والقومية والدينية!!
نحن لا ندَّعي بأن حركة حماس غيرُ واعيةٍ لعواقب مثل هذه التحركات واللقاءات، والتي ستدفع ثمنها -بلا شك- من رصيدها الأخلاقي لدى شعوب أمتها الإسلامية، التي تتنازعها الآراء والمواقف تجاه ما يجري، ويحذِّر نجباؤها وأهل الرأي والمشورة فيها من الوقوع في فخِّ الخديعة، والذي سبق للإسلامين من إخوان وسلفيين أن تّمَّ استدراجهم إليه، ودفعهم لقتال السوفيت في أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي، وذلك لحساب معركة أمريكا مع الاتحاد السوفيتي إبّان حقبة الحرب الباردة، حيث تمكَّنت أمريكا وحلفاؤها الغربيون من كسب تلك المعركة، والانتصار بدماء المسلمين الطيبين على السوفييت الأشرار. لقد نجحت أمريكا -آنذاك- في امتصاص الهبة العارمة لشباب الصحوة الإسلامية ضد الظلم والاستبداد في بلدانهم، وقامت بتوجيه دفته واستثماره بمهارة في محاربة الشيوعية، واستنزاف طاقة جميع المتحاربين من السوفيت والإسلاميين.
اليوم، هل تصل بنا حالة إعمال الفكر والخيال إلى تصور مشهدٍ تفتح لنا فيه روسيا جبهة لمحاربة الأمريكان والغرب في أوكرانيا، حيث إن العداء لأمريكا والغرب -بشكل عام- ما زال قائماً، وإنَّ هناك من يُغِّدي مثل هذا العداء في الكثير من الحواضر الغربية، حيث تتصاعد حالات الاستهداف للجاليات المسلمة في تلك الدول، وذلك مع تنامي ظاهرة الأحزاب اليمينية المتطرفة، وما تروج له من ادعاءات حول خطر تزايد أعداد المهاجرين المسلمين على أنماط حياتهم ومستقبل وجودهم.
ولذا فإن تنامي ظاهرة (الإسلاموفوبيا) كجريمة تمضي بلا عقاب في الغرب، واستمرار موجات انتشارها سوف تؤدي إلى تكريس مظاهر العداء والكراهية للغرب، وبالشكل الذي يُسوِّق إلى "دعشنة" أبناء هؤلاء، وقطع الطريق أمام اندماجهم في تلك المجتمعات، بل قد يجد المئات منهم لاحقاً وفي سياق رغبات الثأر والانتقام لكرامتهم وهويتهم الدينية غير المعترف بهاـ ما يوفر لهم القناعة بالاصطفاف مع الروس والمعسكر الإسلامي المتحالف معهم لمقاتلة أمريكا ودول أوروبا المنضوية تحت رايتها في المسرح المفتوح للمنازلة وهو الساحة الأوكرانية.
قد لا تكون المشابهة هنا صحيحة، ولكن هذا بعض ما قد يدور في أذهان الكثير من أبناء المسلمين وبعض الإسلاميين ممن عمَّقت مواقف أمريكا وسياساتها المنحازة لإسرائيل مستوى العداء والكراهية لها.
نعم؛ إن مثل هذا الانفتاح في العلاقة مع روسيا قد لا يكون مريحاً للكثير من الكوادر الإسلامية في الدول العربية، وأن اجتهاد بعض قيادات حماس في تحركاتها فيما الحرب محتدمة في أوكرانيا، التي ترى فيها أمريكا وحلف الناتو أنها معركتهم الكبرى التي يتطلعون فيها لهزيمة روسيا والمحور الذي تمثله، بما في ذلك الصين وإيران وبعض الأنظمة العربية وكل من يدور في فلكهم من حركات إسلامية يرى فيها الغرب أذرعاً تعمل بالوكالة لتلك الدول.
ليس من نافلة القول الإشارة إلى أن علاقة روسيا بإسرائيل ما تزال قوية، وأن لروسيا اليوم امتدادات وجذور اجتماعية قوية في هذا الكيان الصهيوني، نظراً لضخامة أعداد المهاجرين الروس في إسرائيل، وهذا ما يجعل المراهنة على روسيا لدعم حماس عسكرياً مسألة فيها نظر. نعم؛ قد تكون هناك بعض الأنغام وأشكال اللحن السياسي التي تعزفها روسيا كي تُطرب آذان حماس ومسامع الإسلاميين، وأيضاً مشاهد الحفاوة في الاستقبال لقيادات حركة حماس، والتي قد تمنح البعض منهم شعوراً بأن الحركة غدت لاعباً مهماً على رقعة الشطرنج العالمي.
إنًّ علينا وقبل أن يغالبنا النعاس وتسرح بنا أحلام اليقظة، ألا تغيب عنا حقيقة أننا مجرد "بيدق" يمكن التخلص منه أو إبقائه لمشاغلة "الملك" ومناوشته لبعض الوقت على تلك الرقعة المعقدة من لعبة الشطرنج، التي تحرك كل بيادقها وتقلبها عقول كبيرة متمرسة خلف الكواليس تملك بيدها كل لوغاريتمات المؤامرة وأسرارها، عبر حسابات خفيِّة تتلاعب بها أصابع الكبار من صانعي تلك اللعبة.