إبان الحروب، غالباً ما يقدم المحاربون وعوداً كبرى ومضخمة للسكان: غداً، بعد الانتصار، سيحل عصر جديد. هذا ما يقولونه بطريقة أو أخرى على ألسنة قادة الحرب السياسيين والعسكريين، وأحياناً المثقفين الذين ينسبون أنفسهم إلى قضية الحرب كما يقدمها فريقهم.
أحد أسباب ذلك أن مطالبة السكان بالتضحية إبان القتال لا بد أن يتلوها تعويض معنوي أو مادي يُقدم لهم، وإلا بدت الحرب فخاً نصبه السياسيون والعسكريون للمدنيين المضللين. وفي الأنظمة الديمقراطية خصوصاً، حيث الانتخابات مناسبة للمحاسبة لا مهرب منها، يغدو إرفاق القتال بوعد كبير شرطاً لبقاء السياسيين سياسيين ولترك العسكريين يتابعون حربهم.
بطبيعة الحال، قد تظهر، والحال هذه، مبالغات بل أكاذيب يعرف مطلقوها أنها كذلك، خصوصاً أن القدرة على التدقيق والتمحيص تنخفض إبان الحروب، إلا أن ذلك لا يغير القاعدة العامة من حيث المبدأ: إن الوعد الكبير لا بد أن يلازم الحرب الكبيرة، وإلا ارتدت حروباً صغيرة تافهة.
إذا صح هذا التقدير جاز للبناني المتوسط أن يسأل: لماذا لا يحصل عندنا شيء كهذا؟ فهو المشدود من شَعره إلى حالة حربية مستمرة منذ عقود، حالة تتخللها حروب متقطعة ويخيم عليها ظل حرب ضخمة ماثلة في الأفق، لا يقول له المحاربون أي شيء عن اليوم التالي.
والحال أننا إذا راجعنا أدبيات الحروب اللبنانية كما ألفها «حزب الله» نعثر على موضوعتين لا ثالثة لهما: حماية لبنان بحدوده البرية والجوية من الانتهاكات الإسرائيلية، قبل أن تضاف إليها الحدود البحرية مؤخراً، واستعراضٌ لتراث غني في الموت والشهادة ترصعه أسماء مَن قضوا ويقضون في حروب بعضها لبناني وكثيرها غير لبناني، بينما القتلى بعضهم راهن لكن الجزء الأكثر تقديساً منهم ضارب في أزمنة بائدة.
أما الحماية فليست وعداً إلا إذا افترضنا أن العالم يعيش في طبيعة عارية كائناتها الحصرية ذئاب. لا السياسة تنفع معها ولا الصداقات ولا الضمانات، فيما تتقلص همومنا وأفكارنا إلى حماية وجودنا المادي المباشر بوصفها مهمة تدوم إلى أبد الآبدين. وهذا سيئ بما فيه الكفاية فيما خص صورتنا عن البشر وطموحاتهم واحتمالاتهم، وكذلك فيما خص مفهوم الكرامة الذي ينخفض من إنجاز بشري حر وكبير إلى إطلاق صاروخ أو استقبال صاروخ. وأما من قضوا في أعمال قتالية سابقة، فإما غير لبنانيين لا يخاطبون الأكثرية الساحقة من السكان، أو أنهم لا يشكلون مثالات للتقليد عند أغلبية من المشككين بحتمية الحالة الحربية. ثم إن ما يصح في الشهداء يصح في الحماية، بمعنى أنهم ليسوا وعداً، ولا يجوز أن يكونوا كذلك، وإن اعتمدتهم الحروب جزءاً من آلة التعبئة والحماسة والتجييش.
تنم هذه الأدبيات بالتالي عن أن صانعيها جماعة بعينها، وليسوا وطناً أو شعباً ممثلين في دولة جامعة. وكونهم كذلك، فهذا سبب أساسي وراء امتناعهم عن تقديم وعد للسكان: ذاك أن الجماعة التي مثلوها، أو صادروا تمثيلها، لا تطالب بوعد، أو لا تقوى على رفع مطالبة كهذه، إذ هي ما بين راغبة ومضطرة لأن تمحض مسلحيها ولاءً أوتوماتيكياً. أما الآخرون من أبناء البلد فليس مطلوباً وعدهم بشيء يتعدى الكف عن ابتزازهم بالتخوين وبنقص الكرامة.
وأمام افتقار كهذا إلى الوعد، غالباً ما يتطوع يساريون فينسبون إلى «حزب الله» ما لم يتعهده بتاتاً، من برامج تحررية وتقدمية موسعة يُناط بالفقهاء تنفيذها، برامج قد تبدأ بتغيير وظائف المصارف ولا تقف عند تحرير المرأة!
ولا يُخفي تطوع كهذا انتسابه إلى مدرسة في الوعود السخية كانت قد عُرفت بها الفصائل الفلسطينية المسلحة في الستينات والسبعينات. فهذه الأخيرة التي افتُتحت الحروب بتسلحها، فكرت في التغلب على فئويتها بطريقة معاكسة تماماً لطريقة «حزب الله». هكذا كانت تحرر فلسطين عشرين مرة في اليوم القصير، وتزوج «زهرة المدائن» إلى الشيخ عز الدين القسام، كما تخلط لينين بغيفارا بالحاج أمين الحسيني ثم توفدهم جميعاً لخطف طائرة مدنية أو طائرتين. وهي «إنجازات» كانت تُهدى إلى ملايين لا حصر لهم في العالم. أما طموح السكان، بلبنانييهم وفلسطينييهم، فكان يتقلص حينذاك إلى «عودة» إلى أمكنة هُجروا منها وذُبح لهم أبناء وإخوة فيها.
فأدبيات حروبنا انتقلت إذن من إفراط في الوعود، على نحو يبتذل كل وعد ويحتقر كل عقل، إلى إمساك عنها لا يرى في الحياة البشرية سوى سنوات إضافية يمكن تفاديها. وهو مسار يراد له، في كل حال، أن يكون أبدياً.